Loading...

دليل المعتقدات المسيحيَّة - Lesson 4

الله والكون

القصَّة التي تدور في الكتاب المُقدَّس من سفر التكوين إلى سفر الرؤيا هي قصَّة كيفيَّة خلق الله العالم وسقوط العالم في الخطيَّة وتمرُّده عليه وكيفيَّة بدء الله عمليَّة خلقٍ جديد سوف يستمرّ لحين انتهاء كُلّ أثرٍ للخطيَّة. البشر ذروة خليقة الله وتاجها لأنهم صورة الله على عكس المخلوقات الأخرى (التكوين 26:1-27). وسريعاً ما تبع خلق البشر دخول الشرّ في قلوبهم. فقد خُلِقوا بإمكانيَّة الاختيار بين الصواب والخطأ وبين طاعة الله وعصيانه. لكنهم اتَّخذوا القرار الخاطئ بتحريضٍ من المُجرِّب فدخلت الخطيَّة العالم بجميع عواقبها الرهيبة.

I. Howard Marshall
دليل المعتقدات المسيحيَّة
Lesson 4
Watching Now
الله والكون

Lessons
Transcript
  • ما دام الله قد أوحى بالفعل بالكتاب المُقدَّس، ربَّما يسأل أحدهم عن سبب دراسة العقيدة المسيحيَّة قائلاً: هل يكفي بالتأكيد أن يدرس المرء الكتاب المُقدَّس دون الانشغال بمسألة العقيدة؟ ربَّما تكون أبسط إجابةٍ عن هذا السؤال هي أن أيّ شخصٍ يدرس الكتاب المُقدَّس إنَّما يدرس العقيدة في الواقع. المناقشة المنهجيَّة للاهوت المسيحيّ سوف تنقل الطالب إلى العديد من مصادر المعرفة ومجالات التفكير. وسوف يكون هدفنا هنا هو الهدف الأكثر تواضعاً المُتمثِّل في محاولة وضع التعليم الكتابيّ الذي يُشكِّل أساس اللاهوت المسيحيّ.

  • تخبرنا العقيدة المسيحيَّة بما يؤمن به المسيحيّون عن الله. ولكن قبل أن نتمكَّن من مناقشة ما نؤمن به عن الله، ينبغي أن نعالج السؤال الأوَّليّ حول كيفيَّة التعرُّف على الله وعلى وجوده وطبيعته وأفعاله. فهذا السؤال له أهميَّةٌ حاسمة لأن الاختلافات بين المواقف اللاهوتيَّة المُتنوِّعة التي يعتنقها المسيحيّون غالباً ما تعتمد على اختلافاتٍ في طريقة التفكير بخصوص كيفيَّة معرفة الله.

  • على الرغم من أننا لا نستطيع معرفة الله بالبحث، فإن الله كشف لنا نفسه بطُرقٍ يمكننا فهمها. بما أننا مخلوقاتٌ مصنوعة على صورة الله (التكوين 26:1)، من الممكن أن يكون لنا بعض الفهم عن الله الذي صنعنا. كشف الله عن نفسه بلغة البشر، وبما أننا ندرك أن لغة البشر وسيلةٌ صادقة لكنها غير كافيةٍ لتوصيل حقيقة الله، يمكننا إحراز بعض التقدُّم في الفهم. لاءم الله نفسه بلطفه لعقولنا الضعيفة والخاطئة من خلال التكلُّم إلينا في إعلانٍ شخصيّ، ولذلك ينبغي أن نتذكَّر أن الشخص نفسه أعظم من الإعلان. علينا أن نتذكَّر أنه أبعد من نطاق فهمنا وأن الكلمات البشريَّة لا يمكنها التعبير عنه كما يحقّ وأنه لا يزال بإمكاننا أن نقول المزيد عنه.

  • القصَّة التي تدور في الكتاب المُقدَّس من سفر التكوين إلى سفر الرؤيا هي قصَّة كيفيَّة خلق الله العالم وسقوط العالم في الخطيَّة وتمرُّده عليه وكيفيَّة بدء الله عمليَّة خلقٍ جديد سوف يستمرّ لحين انتهاء كُلّ أثرٍ للخطيَّة. البشر ذروة خليقة الله وتاجها لأنهم صورة الله على عكس المخلوقات الأخرى (التكوين 26:1-27). وسريعاً ما تبع خلق البشر دخول الشرّ في قلوبهم. فقد خُلِقوا بإمكانيَّة الاختيار بين الصواب والخطأ وبين طاعة الله وعصيانه. لكنهم اتَّخذوا القرار الخاطئ بتحريضٍ من المُجرِّب فدخلت الخطيَّة العالم بجميع عواقبها الرهيبة.

  • الموضوع الرئيسيّ للاهوت المسيحيّ الذي يضفي عليه طابعه المسيحيّ هو مجيء يسوع إلى العالم مُخلِّصاً إيَّاه من الخطيَّة. ومجيئه على حدٍّ سواء إعلانٌ عن طبيعة الله المُقدَّسة المُحبَّة كما أنه فعل المَحبَّة السامية الذي يصالح به الله الخطاة لنفسه.

  • المرحلة التالية في دراسة العقيدة المسيحيَّة تراعي النظر في الحياة الجديدة التي يهبها الله لمن يقبلون يسوع مُخلِّصاً لهم من الخطيَّة. سوف نبدأ بالنظر إلى كلمتين عامَّتين تُستخدَمان لوصف اختبارنا كمسيحيّين، ثم نناقش أربعة جوانب مختلفة للحياة المسيحيَّة، وسوف ننظر أخيراً في طبيعة استجابتنا لهبة الله المُتمثِّلة في الخلاص والحياة الأبديَّة.

  • لا يمكن للمرء أن يصبح مسيحيَّاً بمُجرَّد الإيمان بيسوع المسيح دون أن يصبح في الوقت نفسه عضواً في شعب الله مع جميع إخوته المؤمنين وأن يشارك في حياة الكنيسة. في الواقع، لم يكن من الممكن أن نعرف يسوع دون شهادة المسيحيّين الآخرين وعملهم في ترجمة الكتاب المُقدَّس وتوزيعه وصلواتهم من أجلنا. لم يأتِ يسوع لخلاص الناس بمعزلٍ عن بعضهم البعض بل لتأسيس مجتمعٍ جديد من الناس يعملون على بنيان بعضهم البعض في الإيمان وكرازة العالم. ينبغي علينا الآن استكشاف معنى الكنيسة ومهامها.

  • يهتمّ علم الأخرويَّات بالتدخُّل الأخير لله في التاريخ لإنهاء العالم الحاضر الشرِّير ولبدء العالم الجديد. لكن فعل الله هذا لا يقتصر على المستقبل لأن الله بدأ خليقته الجديدة في مجيء يسوع وتأسيس الكنيسة. جرت العادة على فهم النبوَّات المُتعلِّقة بالأيَّام الأخيرة على أنها كانت تتحقَّق في الأيَّام الأولى للكنيسة. ولذلك، لكي نفهم ما سوف يحدث في المستقبل نحتاج إلى تلخيص قدرٍ من القصَّة الكتابيَّة حتَّى نضع المستقبل بعين الاعتبار.

4

 

الله والكون

 

القِصَّة التي تمتدّ عبر الكتاب المُقدَّس من سفر التكوين إلى سفر الرؤيا هي قِصَّة كيفيَّة خلق الله للعالم، وكيفيَّة سقوط هذا العالم في الخطيَّة والعصيان ضدّ الله، والكيفيَّة التي بدأ الله بها عمليَّة الخلق الجديد التي سوف تستمرّ إلى حين إزالة كُلّ أثرٍ للخطيَّة. سننظر في الفصل الحاليّ في خلق الكون، ثم تنظر عن قُربٍ في طبيعة البشر وكيفيَّة سقوطهم في الخطيَّة.

 

الله الخالق (التكوين 1)

 

يمكن تقييمُ الطريقةِ التي يصف بها الكتاب المُقدَّس خلق العالم على أفضل وجهٍ عند المقارنة مع نهجين آخرين. من ناحيةٍ، كانت الكثير من الثقافات القديمة تشمل قِصصاً تصفُ الكيفيَّةَ التي صنعتِ الآلهةُ بها الكونَ بطريقةٍ غير مُتقَنةٍ إلى حدٍّ ما. فملحمةُ الخلق البابليَّة تصف الطريقة التي ذبح بها الإلهُ مردوخ المُتمرِّدةَ تيامات، ثم قطَّعَ جسدَها وكأنه سمكة مُستخدِماً نصفَهُ لصنع السماء ونصفَهُ الآخر لصنع الأرض. وعلى الرغم من إمكانيَّةِ تتبُّعِ بعضِ التماثلاتِ السطحيَّة بين الروايات الكتابيَّة عن الخلق وهذه القصص الوثنيَّة، من الواضح تماماً أن الروايات الكتابيَّة خاليةٌ بطريقةٍ لافتة للنظر من الأمور الموجودة لدى ثقافة جيران بني إسرائيل من عناصرَ أسطوريَّةٍ وخيالٍ مُطلَق، كما أنها في مُجمَلها على مستوىً أسمى يتَّسمُ بالتوحيد.

 

لدينا من ناحيةٍ أخرى تفسيرُ أصولِ الكون مثلما قد يردُ في كتابٍ دراسيّ حديثٍ لعلم الكونيَّات العلميّ. لا يحاول الكتاب المُقدَّس تقديمَ روايةٍ من هذا النوع، فمن المستحيل أن يفعل ذلك. ويُلخِّصُ الكتابُ العاديّ الحديث في علم الكونيَّات عِدَّة نظريَّاتٍ متنافسة حول الموضوع ويُعبِّر عنها تعبيراً بعلم الرياضيَّات يتجاوزُ فهمَ القارئ العاديّ. لو كان الكتاب المُقدَّس قد حاولَ تقديمَ علمِ كونيَّاتٍ علميّ لَتَجاوزَ بالتأكيد فهمَ الشخص العاديّ.

 

تُقدِّم لنا الرواية الكتابيَّة بدلاً من ذلك وصفاً شِعريّاً لحقيقةِ خلقِ الله للكون؛ فهي تسردُ ما يمكنُ رؤيتُه في العالم وتُؤكِّدُ على أن كُلّ شيءٍ مدينٌ بأصله لله. فهي لا تحاول شرحَ الكيفيَّة التي خلقَ بها اللهُ العالم، ومن المشكوك فيه بالفعل ما إذا كان من الممكن وصفُ فعلِ الخلق بالكلمات.

 

من سوء الفهم اعتبارُ الرواية الواردة في التكوين 1 روايةً علميَّة لما حدث. ومن هنا قّلما تظهرُ النزاعاتُ المزعومة بين الرواية الكتابيَّة والروايات العلميَّة الحديثة للخلق. يؤدّي النوعان من الروايات مهمّتين مختلفتين تكمّل إحداهما الأُخرى. يهتمّ العلماء بأسئلة: "ماذا" و"كيف" المرتبطة بالكون؛ ويريدون وصفه وصفاً دقيقاً، وشرح القوانين التي سيطرت على تطوُّره. أمَّا الكتاب المُقدَّس فيهتمّ بأسئلة "لماذا" المرتبطة بالكون، ومسائل أصله الأساسيّ ومصيره النهائيّ وأهمّيته الأخلاقيَّة. هاتان مسألتان مختلفتان، ومحاولات الإجابة عنهما لا تؤول إلى التسبُّب في أيّ صراعٍ ما دام علماء اللاهوت والعلماء لا يُجرون محاولاتٍ غيرِ مشروعةٍ للإجابة عن أسئلة بعضهم البعض. صحيحٌ أنه توجد "أرضٌ محايدة" مُعيَّنة بين العلم وعلم اللاهوت حيث يمكن أن تظهر مشكلاتٌ حقيقيَّة، ولكن عمل كثيرين من العلماء الذين هم أيضاً مسيحيّون يشير إلى أن هذه المشكلات لها حلٌّ مسيحيُّ متماسك.

 

الغرض من الرواية الكتابيَّة للخلق إذاً هو التعليم بأن الكون ليس موجوداً بذاته بل يرجعُ أصلُه إلى الله. تشير الأساطير الوثنيَّة، مثلُ الأسطورةِ البابليَّة المذكورةِ أعلاه، إلى أن الآلهةَ خلقتِ الكونَ من بعضِ "الأشياء" الموجودةِ سابقاً ، تماماً مثلما يصنعُ الخزَّافُ شكلاً مفهوماً من كتلةٍ من الطين. أمّا الكتاب المُقدَّس، فعلى النقيض من ذلك، يُؤكِّد تأكيداً قاطعاً أنّ الله خلق الكون من العدم. خلقَ الموادَّ وشكَّلها أيضاً (العبرانيّين 3:11). حتَّى قد نقترح أنه خلقَ المكانَ والزمانَ على الرغم من أنه يستحيل علينا أن نتخيَّل ما قد يعنيه خلقُ المكانِ والزمانِ بما أننا لا نستطيعُ التفكيرَ دون استخدامِ سياقهما.

 

تستبعد عقيدةُ الخلقِ الكتابيَّةُ وجهةَ النظر – الشائعةَ الوجود – القائلةَ بأن الله ينبغي أن يتطابَقَ مع الكون كُلِّيَّاً أو جزئيَّاً. لا يوجد سندٌ في الكتاب المُقدَّس لنظام وحدة الوجود الفلسفيّ القديم الذي يُؤكِّد على أنّ الكون هو مُجرّدُ مخلوقٍ صنعَهُ الله. فالله أعظمُ بكثيرٍ من الكون الذي خلقَهُ والذي يحكمُهُ. بغضّ النظر عن عظمة الكون، فالله يسكنُ الأبديَّةَ، والأرضُ موطئُ قدميه (إشعياء 15:57؛ 1:66). ولهذا السبب يعارض الكتاب المُقدَّس بشدَّةٍ عبادةَ الأصنام، أي عبادةَ الخليقة أو جزءٍ من الخليقة بدلاً من عبادة الخالق (رومية 25:1). علَّقَ بعضُ رُوَّاد الفضاء في العصر الحديث بأنهم لم يروا الله في سياق استكشافاتهم، وقد يميل المرءُ لاستخلاصِ الاستنتاجِ الغبيِّ بعدم وجودِ إلهٍ. لا تعترفُ مثل هذه النظرةِ بسموّ الله باعتباره الواحدَ الأعظم من الكون والذي لا يرتبط وجودُهُ بما لدينا من تصنيفاتٍ للمكان والزمان.

 

تفترض النظرة الشعبيَّة للخلق فعلاً من أفعال الله في مرحلةٍ ما من الماضي الغابر أوجدَتِ الكونَ، وسيَّرتْهُ مثلَ ساعةٍ مُستمرَّة في الدوران بقوَّتها الخاصَّةِ ودون أيّ مزيدٍ من الاهتمام. هذه النظرة قابلةٌ للنقد على ثلاثة اعتباراتٍ. إنها تجعل الله أشبهَ بمالكٍ غائب تركَ كونه لوسائله الخاصَّة ولم يعدْ يمارسُ أيَّة سيطرةٍ عليه؛ وهذا هو الخطأ المعروف باسم الربوبيَّة التي ازدهرت في القرن الثامن عشر. كما أنها لا تأخذُ في الاعتبار إمكانيَّةَ التجديدِ المُستمرّ للكون بإمداداتٍ جديدة من المادة – أي ما يُسمَّى "بالخلق المُستمرّ" للمادة بحسب افتراض بعض علماء الكونيَّات. بالإضافة إلى ذلك، فإنها تتجاهلُ الخلقَ المُستمرّ لأشكالٍ جديدة من الطبيعة الجامدة والحيَّة التي تحيط بنا من كُلّ جانبٍ. فسؤال "من صنع هذا المشهد الجميل؟" لا يلقى إجابةً وافية بالحديث عن عمل الله في خلقه في البدء: نحن بحاجةٍ للرجوع إلى عمل الرياح والماء على مدى قرونٍ، وزرعِ الغطاءِ النباتيّ أو إزالتِهِ بوسائطَ بشريَّة، وما يشابه ذلك. وبالمثل، عندما يسأل طفلٌ ما: "من خلَقَني؟" فإنّ عملَ الله في خلقه في البدء لم يكن هو المسؤول بل الشركة بين والديه في اتّحادٍ إبداعيّ. يترتَّب على ذلك أن عقيدَتَنا عن الخلق ينبغي أن تحافظَ على فكرةِ كونِ الله يستمرّ في خلق الكون في مثل هذه الأفعال الطبيعيَّة ومن خلالها. فالله يرعى الكونَ ويسيطر عليه على نحوٍ مستمرّ. ولو لم يفعلْ ذلك لتوقَّفَ عن الوجود (راجع كولوسي 17:1).

 

عندما ننتقل إلى العهد الجديد نجد أن يسوع المسيح مرتبطٌ ارتباطاً وثيقاً بالله الآب في عمل الخلق. يتَّضحُ أنّ يسوع هو العامل المركزيّ في الخليقة الجديدة التي هي موضوعُ العهد الجديد، لكنه شارك أيضاً في الخلق الأصليّ للكون (العبرانيّين 1:1-3). يوجد فارقٌ دقيقٌ بين أدوار الأقانيم الثلاثة للثالوث. الله الآب هو الخالق النهائيّ للخليقة، وابنه هو الوسيط الذي به خُلِقَ العالم، وقيل عنه إنه به توجد جميع الأشياء (1 كورنثوس 6:8). كما يرتبط الروح بالخلق (التكوين 2:1). وبالتالي، كما قد نتوقَّع، يشارك الثالوث كُلُّه في عمل الخلق.

 

الله الرّبّ (المزمور 107)

 

إذا كان الله قد خلق الكون، فلا بدّ أن يكون أعظمَ منه. ليس من المفاجئ إذاً أنه يُعرَف بأنه ربُّ الخليقة كُلّها أو سيِّدُها. يُعبَّر عن هذه العلاقة من خلال التعبيرات الثلاثة التي تبدأ بكلمة "كُلِّيّ" التي تُظهِرُ السلطانَ الأسمى لله على خليقته بأكملها.

 

الله كُلِّيّ القدرة. فهو قادرٌ على عمل ما يريده (راجع إشعياء 21:40-31). لا يعني هذا بالطبع أنه قادرٌ على عمل أشياءٍ متناقضةٍ مع نفسِها أو سخيفة. سَخِرَ بعضُ الناس أحياناً من الاعتقاد المسيحيّ بكُلِّيَّة قدرة الله بسؤالهم: "هل يمكن أن يخلق الله حجراً ثقيلاً لدرجة أنه لا يمكنه أن يرفعه؟" لسنا بحاجةٍ لتضييعِ وقتنا على ألغازٍ منطقيَّة من هذا النوع. يجب أن نتحرَّك بدلاً من ذلك للتساؤل عن القوَّة التي تمكَّن بها الله الابن من أن يصبح جزءاً من خليقته عندما تجسَّد كإنسانٍ. من وجهة نظر المنطق، هذه استحالةٌ أيضاً، ولكن عدم قدرتِنا على فهمِ إمكانيَّتِهِ تعكسُ مدى محدوديَّةِ فهمِنا البشريّ. ووجودُ الشرّ في العالم يمثّلُ مشكلةٌ أهمّ فيما يتعلَّق بسيادة الله (انظر القسم الأخير من هذا الفصل).

 

الله كُلِّيّ المعرفة. إنه يعرف الكون الذي خلقه ويفهمه تماماً. لا شيءَ يحدثُ فيه يخفى عنه (راجع رومية 33:11-36؛ كولوسي 3:2). أمامَنا هنا مرَّةً أخرى مفهومٌ يتجاوزُ ما يمكن أن تُدرِكَه عقولُنا. ليس من الممكن لنا أن نتخيَّلَ موقفاً نعرفُ فيه كُلّ شيءٍ، بما في ذلك كُلُّ ما سوف نعمله نحن أنفسنا. يتحدَّث الكتاب المُقدَّس عن تعيينِ الله المسبَق لما سيحدثُ في المستقبل، بحيث يَجري التاريخ وفقاً لخُطَّته، ويتمكَّن أنبياؤه من التنبُّؤ بجوانبَ مُعيَّنةٍ لما سيحدث. يتضمَّن التعيينُ المسبَقُ هذا بالضرورة ما سيفعله الله نفسه في المستقبل. ولكن حالما نحاولُ التفكيرَ في التعيينِ المسبَقِ الحُرِّ لما سيفعلُه الله نفسه في المستقبل، نجد أننا نضعُ أنفَسنا في عُقدةٍ منطقيَّة لا مفرَّ منها. فالمعرفة الكُلِّيَّة صفةٌ من صفات الله يمكننا أن نعترف بها ولكن لا يمكننا أن نفهمها. ولهذا السبب ينبغي التعامل مع مفهوم التعيين المسبَق، الذي أدَّى دوراً مُهمَّاً جدَّاً في اللاهوت البروتستانتيّ، بأقصى قدرٍ من الحذر. فالحديثُ عن كُلِّيَّةِ معرفة الله وتعيينِه المُسبَق معناه الحديثُ عن لغزٍ يتخطَّى الفهمَ البشريّ ويسهلُ استخلاصُ استنتاجاتٍ خاطئة من خلاله. نستخدم بدلاً من ذلك هذه الكلمات للاعتراف بعظمة الله الذي يمكننا أن نُسلِّم له مستقبلنا واثقين تماماً بأنه سوف يعمل كُلّ شيءٍ لخيرنا (رومية 28:8).

 

الله كُلِّيّ الوجود. هذه أيضاً صفةٌ يمكن إساءةُ فهمِها وقد تُسبِّبُ المشاكل. من الواضح أنه ليس علينا أن نعتقدَ أن الله نوعٌ من أنواعِ الغازِ القليلِ الكثافة أو الموجاتِ اللاسلكيَّة التي تملأ الفضاء كُلّه، بل الحقيقة هي أنه ليس في الكون جزءٌ مُغلقٌ على الله ونشاطه. وجد يعقوب أنه لم يستطع الهروب من عين الله الساهرة بمغادرة مكان سكناه (التكوين 10:28 وما يليها، وخصوصاً الآية 16)، وأكَّد كاتب المزامير على استحالة الفرار من الله نهاراً أو ليلاً، في الحياة أو الموت (المزمور 139). يمكن أن يجد الناسُ الله ويتواصلوا معه في أيّ مكانٍ وأيّ وقتٍ (متَّى 20:28). وبالتالي، فإن عقيدة كُلِّيَّة الوجود تعبيرٌ عن حقيقة أن الله موجودٌ دائماً لمساعدة شعبه بقوَّة سلطانه. ومع ذلك، من الممكن أن نتحدَّث عن أشخاصٍ يغلقون على أنفسهم من وجود الله بخطيَّتهم، ونتحدَّث أحياناً كما لو كانت توجد درجاتٌ لحضور الله: يوحي قولُ يسوع عن حضوره عندما يجتمع باسمه اثنان أو ثلاثة (متَّى 20:18) بأنه موجودٌ بطريقةٍ خاصَّة في تجمُّعات المؤمنين على الرغم من أننا لا نريد إنكارَ حضوره مع المؤمن بمفرده. فمصطلح "الحضور" يتأثّر بالسياق إلى حدٍّ ما ويمكن أن تكون له قوَّةٌ مختلفة نوعاً ما في سياقاتٍ مختلفة.

 

الهدف من تأثير التحدُّث عن الله بهذه المفاهيم الثلاثة المُجرَّدة هو إظهار عظمةِ وحكمةِ رعايتِهِ لشعبه المُتوفِّرةِ لهم في جميع الأوقات وفي كُلّ مكانٍ. ورعايةُ الله هذه للكون ومن يعيشون فيه يُعبَّرُ عنها عادةً بمصطلح العناية الإلهيَّة (حرفيَّاً: "البصيرة"). ينسِبُ كُتَّابُ الكتاب المُقدَّس تعاقبَ الفصول وتوفيرَ المطر وضوءَ الشمس وكُلَّ ما يُمكِّن الناس من العيش في أمانٍ إلى رعاية الله الشفوقة للعالم. وترتبط هذه الرعاية بسلوك شعب الله. تُظهِر قِصَّة العهد القديم أنه عندما كان شعب إسرائيل بارَّاً تمتَّعَ بالرخاء على المستوى الماديّ، ولكن عندما عبَدَ آلهةً كاذبة وتوقَّف عن الثقة في تدبيرِ الله له وقعَتِ الكارثة (التكوين 29:1-30؛ 22:8؛ التثنية 28؛ المزمور 104؛ متَّى 25:6–34؛ 29:10-31).

 

لا بدَّ أنْ نعترفَ بأنه لا يوجد تطابقٌ دقيق بين السلوك البشريّ والتدبير الإلهيّ لاحتياجات الإنسان. لا يمكننا تتبُّع الروابط بين التقوى البشريَّة والرخاء الماديّ وبين الخطيَّة البشريَّة والكوارث الطبيعيَّة بالطريقة التي رسمها أنبياءُ العهد القديم، فقولنا إن كارثةً طبيعيَّة ما وقعتْ بسببِ خطيَّةٍ معيّنة ارتكبها البشر هو خطأ بالتأكيد لأننا نفتقر إلى رؤيتهم النبويَّة. كان كُتَّاب الكتاب المُقدَّس أنفسهم واعين تماماً بمشكلة ظهور الأشرار وكأنّهم يزدهرون على حساب الصّدِّيقين، وهذا ما دفعهم لاستنتاجِ أن المشكلة لا يمكنُ حلُّها إلّا بأخذِ ما يحدث بعد الموت بعينِ الاعتبار (المزمور 3:73). تبدو هنا سمةُ الإيمانِ الدينيّ باعتباره إيماناً وثيقَ الصلة. فالإيمان لا يعني كما ذكر أحد الأطفال: "تصديق ما تعرف أنه غير صحيحٍ". ولكنه تصديق شيءٍ ما رغم العقبات الكبيرة التي تعترضه. غالباً ما تكون المظاهر مناقضةً للاعتقاد المسيحيّ، ونحن نميل لتفسير الكون تفسيراً لا يَرى إلَّا الطابعَ الخارجيّ المُربِك. استناداً إلى مثل هذه الحقائق العنيدة مثل حياة يسوع وموته وقيامته، فإن الإيمان هو الفعل الجريء الذي لا نكتفي بموجبه بمُجرَّد المظاهر بل نؤمن أنه فيما وراء الكون يوجد شخص الله المُحبّ الكُلِّيّ القدرة. يستند الاعتقاد المسيحيّ على أنه بغضِّ النظر عن مدى هولِ تجاربِ الشخص الذي يؤمن بالله إلَّا أنَّ الله يعلم وضعَهُ ويعتني به وسط تجربته، وسوف يجعله في النهاية يجتازها بأمانٍ.

 

طبيعة البشر (المزمور 8)

 

البشرُ ذروةُ خليقةِ الله وتاجُها، لأنهم، بخلاف المخلوقات الأخرى، صورةُ الله (التكوين 26:1-27). تعني هذه العبارة أنهم يشبهون الله ويمثّلونه بطريقةٍ ما في العالم. لديهم السيادة على عالم الطبيعة، ويمكنهم التحكُّمُ في بيئتهم وإبداعُ أشياءٍ جديدة. والأهمّ من هذا كُلّه، لديهم طبيعةٌ أخلاقيَّة. يتميَّزون عن الكائنات المخلوقة بقدرتهم على السلوك الأخلاقيّ، ويعرفون الفرقَ بين الصواب والخطأ، وبين الحُبّ والكراهية. يمكنهم الشركة مع الآخرين ومع الله نفسه. فالبشرُ كائناتٌ ذاتُ طبيعةٍ أخلاقيَّةٍ وروحيَّةٍ تُميِّزهم عن بقيَّةِ الخلق وتضعُهم "في مرتبةٍ أدنى بقليلٍ من الله"، مع التأكيد على كونهم مخلوقات.

 

لا يتأثَّر وصفُ الكتاب المُقدَّس للبشر على أنهم مخلوقاتٌ مصنوعةٌ على صورة الله بالمسائل العلميَّة المُتعلِّقة بأصل الجنس البشريّ. ثار الكثيرُ من الجدل بين المسيحيّين حول صحَّةِ نظريَّة التطوُّر البيولوجيّ من عدمها، وقد يجادل البعض بأنّ النظريَّةَ لا يمكن أن تكون صحيحة لأنها تتناقضُ مع الرواية الكتابيَّة عن خلق البشر. يمكن الخلطُ بسهولةٍ بين عددٍ من الأسئلة هنا، كما هو الحال مع المسألة العامَّة حول خلق الكون. ينبغي الإصرار على أنّ مسألة البدايات البيولوجيَّة للأنواع البشريَّة هي مسألةٌ للعالِم ولا يمكن تسويتُها بالاحتكام إلى الكتاب المُقدَّس. لا يهتمّ الكتاب المُقدَّس بتقديمِ تقريرٍ علميّ عن أصل البشر ولكنه يُشدِّدُ على الخلق الإلهيّ لهم وطبيعتِهم الروحيَّة. لا يوجد تضاربٌ بين الكتاب المُقدَّس والعلم، بشرط عدم تفسير الرواية الكتابيَّة عن الخلق تفسيراً حرفيَّاً يتعارض مع مقصد الكاتب الأصليّ. نُؤكِّد على أنه يجدر بنا أن نتذكَّر أن التطوُّر البيولوجيّ يبقى فرضيَّةً علميَّة، وهي النظريَّة الأكثر قبولاً بصفةٍ عامَّة بالإجماع، ولكنها، مثلُ كُلِّ فرضيَّةٍ علميَّة، تقبل الدحضَ والاستبدالَ بنظريِّةٍ أفضل. بالإضافة إلى ذلك، لا يمكن دحضُ التأكيدات عن الطبيعة الروحيَّة للبشر بالاحتكام إلى أصولهم المتواضعةِ المحتملة مثلما لا يمكن القول إنّ إحدى اللآلئ عديمةُ القيمة لأنها مستخرجةٌ من محارٍ متواضع. بالطريقة نفسها، لا يمكن قياسُ قيمةِ الشخص بمُكوِّناته الكيميائيَّة (التي قُدِّرت قيمتها بدولارين ولكنها ازدادت بفعل التضخُّم!)، وإنّما بصفاته الروحيَّة والأخلاقيَّة والجسديَّة. تكمن المشكلةُ في أننا نُفكِّرُ على وجه الحصر في أنّ آدمَ مصنوعٌ على صورة الله؛ ولكنّ هذا ينطبقُ أيضاً على كُلِّ طفلٍ يولَدُ لأبوين من البشر. فكونُ البشر مصنوعين على صورة الله تصريحٌ ينطبقُ علينا جميعاً وليس فقط على الإنسان الأوَّل.

 

مثلما لا يُقصَدُ من الرواية الكتابيَّة لأصل البشريَّة أن تكونَ بياناً علميَّاً، كذلك لا يُقصَدُ من الوصف الكتابيّ لطبيعة البشر أنْ يكونَ بياناً علميَّاً. من الخطير في الواقع إنشاءُ "علمِ نفسٍ" كتابيّ، لأنّ المصطلحاتِ النفسيَّة نفسَها يستخدمُها كاتبو الكتاب المُقدَّس المتنوّعون بظلالٍ مختلفةٍ من المعاني. ومع ذلك، يمكنُنا القولُ عموماً إنّ البشرَ في العهد القديم مخلوقاتٌ مصنوعةٌ من لحمٍ وعظام. وهم يوصفون بأنهم أرواحٌ حيَّة واللهُ مصدرُ أنفاسها (مثال ذلك: 2 صموئيل 12:19-13؛ التكوين 7:2). ويذكرُ العهدُ الجديد أنّ للبشرِ جسداً مُركّباً من لحمٍ ودم (1 كورنثوس 50:15)، ولديهم، أو هُمْ، نفسٌ وروح (1 تسالونيكي 23:5). ثار جدالٌ قديم حول ما إذا كان البشرُ كائناتٍ ثنائيَّةً (أي جسدٌ وروحٌ) أم ثلاثيَّةً (أي جسدٌ ونفس وروح). يميل علماءُ العصر الحديث للقول بأنّ هذه الكلماتِ الثلاثَ تشيرُ إلى ثلاثةِ جوانبَ مختلفةٍ لكنها وثيقةُ الصلة بالبشر. يشير "الجسد" إليهم ككائناتٍ ماديَّة، وتشير "النفس" إليهم ككائناتٍ لديها حياةٌ عقليَّة، ويشير "الروح" إليهم ككائناتٍ لديهم حياةٌ روحيَّة. وبدلاً من القول بوجود ثلاثة أجزاءٍ، يمكن النظرُ إليهم من ثلاثِ وجهاتِ نظرٍ مختلفة. ومع ذلك، يبدو أنّ مصطلحَ "الجسد" يشيرُ إلى الجانبِ الماديّ للبشر أكثرَ من كيانِهم بأكمله، وأنَّ مصطلحَ "النفس" أو "الروح" يشير إلى جانبَيْهم العقليَّ والروحيَّ بدلاً من كيانهم بأكمله.

 

عبَّر تعليمُ ويستمنستر الموجز عن الهدف الرئيسيّ من خلق البشر باختصارٍ ووضوحٍ بأنه "لتمجيدِ الله وللتمتُّعِ به إلى الأبد". من الواضحِ أنّ هذا البيانَ بحاجةٍ لإكماله إذ لا يتعلَّق سوى بعلاقة البشر بالله. ولكنه يتميَّزُ بوضعِ الأولويَّات في مكانها الصحيح بالتصريحِ بأنّ حياةَ الإنسان يُقصَدُ بها أنْ تكونَ متمركزةً على الله، ومُكرَّسةً لتسبيح الله (في كلماتٍ فعليَّةٍ وأيضاً في دافعِها العامّ)، وإيجادِ أسمى فرحٍ له في الشركة الحيَّة مع الله. يُنسَب إلى جون كالفن إعادةُ اكتشافِ هذه الحقيقة المركزيَّة، أنّ اللهَ في الوسط، والبشرُ خليقتُه. في مقطعٍ شهير يليق بمكانته في Reply to Sadolet، انتقد كالفن اللاهوتَ الكاثوليكيَّ في زمانه لوضعِهِ قدراً كبيراً من الضغط على البشر ورغباتِهم في النعيم الأبديّ، وكأنّه يجب أن يكون هو رغبةَ الإنسانِ الرئيسيّة، فقال: "ليس اللاهوتُ سليماً تماماً عندما يحصُرُ الإنسان أفكارَهُ على نفسه، ولا يضعُ أمامَه دافعاً أساسيّاً في حماسةِ وجودِه يتمثّل في إظهارِ مجد الله. لأننا مولودون، أوَّلاً وقبل كُلّ شيءٍ، لله وليس لأنفسنا." يجدر الذكرُ بأنّ وضْعَنا لله في المركز، وجَعْلَ البشرِ في خضوعٍ له، هو الفكرةُ الأساسيَّةُ للاهوتِ كالفن وللّاهوتِ البروتستانتيّ عموماً.

 

يعتاد الناس، في الوقت نفسه، على العيش في المجتمعِ مع الآخرين بحيث تكون الوحدة الأساسيَّة هي العائلة التي تعكس العلاقةَ بين الآب والابن في الثالوث (راجع أفسس 15:3). من المستحيلِ عمليَّاً أنْ يعيشَ الناسُ دون نوعٍ ما من المجتمع – فموقف روبنسون كروزو [بالعيش في جزيرةٍ معزولة] ليس اعتياديّاً بل غريباً بكل وضوح، فالبشر لا يُدرِكون طبيعتهم البشريّة إدراكاً كاملاً إلَّا في المجتمع. وفي الواقع، يمكن القول إنّ مصطلحَ "الشخص" يشملُ علاقاتٍ متبادلةً مثلَ مصطلحِ "الزوج" أو "الزوجة".

 

مشكلة الشرّ (التكوين 3؛ أيُّوب 24)

 

لقد نظرْنا حتَّى الآن إلى الكون والبشر فيما يتعلَّق بخالقِهم دون اعتبارِ التعقيداتِ الناجمة عن وجود الخطيَّة والشرّ. ومع ذلك، وِفقاً للقصَّة الكتابيَّة المألوفة، فإنّ خلقَ البشرِ سرعانَ ما تبعَهُ دخولُ الشرّ إلى قلوبهم. لقد خُلِقوا بإمكانيَّةِ الاختيار بين الصواب والخطأ، بين طاعة الله وعصيانه. ولكنهم اتَّخذوا القرارَ الخاطئ بتحريضٍ من المُجرِّب، فدخلَتِ الخطيَّة بكُلّ عواقبِها المخيفةِ إلى العالم (التكوين 3، راجع رومية 12:5-21؛ 2 كورنثوس 3:11).

 

لا تركّزُ قصَّةُ سقوط آدم وحواء إلَّا على حقيقةِ دخولِ الخطيَّة بين البشر. لا تُخبِرُنا بكيفيَّةِ ظهورِ الشرّ أو بسببه. جاءَ الإغواء من الحيَّةِ التي كانتْ على ما يبدو إحدى المخلوقاتِ التي صنَعَها الله، ولكننا لا نعرفُ الكيفيَّة التي حصلَتْ بها على طبيعتِها الشرِّيرة في عالمٍ خلقَهُ الله، ورأى أنه "حَسَنٌ جدّاً". تستكشفُ مقاطعُ أخرى في العهد القديم قصَّةَ الشرّ باقتراحِ نوعٍ من العصيان بين كائناتٍ ملائكيَّةٍ قبل خلقِ العالم (راجع التكوين 1:6-8؛ إشعياء 12:14-15؛ حزقيال 12:28-19؛ يهوذا 6) ، ولكنّ هذه أيضاً لا تُقدِّمُ لنا أيَّ تفسيرٍ لكيفيَّة ظهورِ الخطيَّة.

 

ترتبط مشكلة الخطيَّة، أي ارتكاب البشر للأخطاء، ارتباطاً وثيقاً بمشكلة الشرّ عموماً. والشرّ هو أيّ شيءٍ يُسبِّب الألم والمعاناة ويتدخَّلُ في التمتُّعِ بالحياة. يعاني الناسُ لأسبابٍ مُتنوِّعةٍ، بما في ذلك تصرُّفاتُهمُ الشرِّيرةُ وتصرُّفاتُ الآخرين، ولكنْ أيضاً بسبب الكوارثِ الطبيعيَّةِ كالعواصف والزلازل والبكتيريا القاتلة والسموم. ينجُمُ قدرٌ كبيرٌ من المعاناة من الجهل، وربَّما كان من الممكن تجنُّبُ بعضِها ولكنْ ليس كُلّها. تُؤدِّي طبيعةُ البشر أيضاً ككائناتٍ مُعرَّضةٍ للفساد إلى المعاناة وفي النهاية إلى الموت. توجد معاناةٌ أيضاً في عالم الحيوان، على الرغم من أننا قد نبالغ في نطاقِ الشعور بالألم لدى الحيوانات التي لديها أنظمةٌ عصبيَّة ابتدائيَّة.

 

من الواضح أنّ هذه المعاناة لا تتناسب مع شرِّ الناس على المستوى الشخصيّ، ولذلك لا يمكنُ اعتبارُها انتقاماً لازماً على طُرقهم الشرِّيرة. فعشوائيّتُها في الواقع هي التي تجعلُ تَحمُّلَها صعباً جدَّاً. يمكن أن يتحمَّلَ الناسُ الألمَ إلى حدٍّ ما عندما يرون سبباً له، فيقبل الإنسانُ مثلاً احتمالَ ألمِ العضلات وعدمِ انتظام دقَّات القلب من أجل تحقيقِ هدفٍ بطوليّ يتطلَّبُ التحمُّلَ البدنيّ. نُدرِك أنَّ قدراً من الألم أمرٌ محتومٌ في العالم. ولكن لا تزال توجد المشكلتان الأساسيّتان لوجود الكثير من الألم والمعاناة اللذين يبدوان عديما الفائدة، ويتسبَّبان في تدمير الحياة بدلاً من تحسينها، واللذين يتَّسمان بالتعسُّف المُطلَق في كُلّ شيءٍ. ربَّما يكون السؤال "لماذا يحدث هذا لي؟" هو الأكثر تميُّزاً وإلحاحاً، وهو السؤالُ الذي يطرحه من يعاني. أمَّا الشخصُ المفكّر فقد يطرح السؤالَ الأكثرَ إرباكاً: "إذا كان الله صالحاً وكُلِّيَّ القدرة، فلماذا لا يمكنه تدبيرُ الأشياء لتجنُّبِ المعاناة والشرّ؟" إذا أجبْنا بأنّ المعاناة ترجع إلى خطايا البشر، فهذا الجواب يعجزُ عن شرحِ سببِ وجود الكوارث الطبيعيَّة، ولا يردّ على الاعتراضِ بأنّ الله كان قادراً على خلقِ كائناتٍ يمكنُه التحكُّمُ بها لتجنُّبِ الوقوع في الخطيَّة والمعاناة على الرغم من امتلاكِها حريَّةَ الإرادة (أو مظهرَ حريَّةِ الإرادة).

 

من الممكن اقتراحُ نقاطٍ مُتنوِّعة تُخفِّفُ من صعوبة هذه الأسئلة مثل القيمة التحذيريَّة لتجارب مُعيَّنة من الألم (مثل ألم الأسنان) أو التأثيرات الجيَّدة لبعض التأديبات المؤلمة على شخصيَّة الإنسان. ولكن يجب التأكيد على أن بعض الناس يتحدَّثون عن الآثار الجيِّدة للمعاناة باستخفافٍ وينسون أنّ الآلامَ التحذيريَّة تُنذرُ من آلامٍ أسوأ، وأن أنواعاً مُعيَّنة من المعاناة (مثل تأثيرات السُعار أو تلف الدماغ) لا يمكن اعتبارُها وسيلةً لتنقيةِ شخصيَّةِ من يعانون منها مهما أسهبنا في الخيال.

 

يمكن اقتراحُ أنواعٍ أخرى من الحلول التي تَحدُّ إمَّا من صلاح الله أو قوَّتِهِ بحيثُ يكون إمَّا غير راغبٍ في التعامل مع المشكلة أو غير قادرٍ عليها. قد تُؤدِّي مثلُ هذه الحلول (وخصوصاً الحلّ الثاني) إلى نظرةٍ ثنائيَّةٍ للكون وكأنّه قوَّةٌ شرِّيرةٌ تعادي الله. لقد عارضَ المسيحيَّون مثل هذا الحلّ معارضةً شاملة تقريباً، حيث أنَّ وَضْعَ قوَّتَيْن متعارضتين متساويتين في القوَّة يترك مجالاً للشكّ بخصوص القوَّة التي سوف تفوز في النهاية، ويُشكِّكُ في التأكيداتِ الكتابيَّةِ عن سيادة الله. ومن ناحيةٍ أخرى، من الأصعب إرجاعُ أصلِ الشرّ إلى مشيئة الله بينما ينفي الكتابُ المُقدَّس هذه الفكرةَ نفياً قاطعاً (التكوين 31:1؛ يعقوب 13:1؛ يُؤكِّد مقطعٌ مثل إشعياء 7:45 ببساطةٍ على أنَّ الله يصيبُ الناس بالبلاوي كعقوبةٍ على خطاياهم).

 

أحدُ الحلولِ هو القولُ بأن الله يسمح بالشرّ بدلاً من أن يشاءه مشيئةً مباشرة، لكن هذا لا يحلّ المشكلة لأن الحديث عن "السماح" يعني ضمناً أن الله نفسه يُفضِّل ألَّا تكون الأمور مثلما هي عليه بالفعل. أو ربَّما يجادل البعضُ بأن ما يبدو لنا شرِّيراً وبلا مُبرِّرٍ يبدو رغم ذلك صالحاً وهادفاً إذا رأيناه من زاوية الله بمعرفةٍ أكمل من معرفتنا كبشرٍ. أيُّوب مثالٌ تقليديٌّ للرجل الذي لم يستطعْ رؤيةَ سببِ معاناته على الرغم من انكشافِ السبب لمن قرأوا قصَّتَه، وفكرةُ السِفر هي أنه لوْ عرفَ المتألمُ سببَ معاناته لفقدَتْ معاناتُه هدفَها في أنْ تكشفَ للشيطان إيمانَ أيُّوب الراسخ بالله.

 

يوجد نوعٌ آخر من الحلول وهو القولُ بأن المشكلةَ تنشأ بسبب خلق البشر كأشخاصٍ ذوي إرادةٍ حُرَّة في الاستجابة الله بمَحبَّةٍ. تنطوي هذه الحُرَّيةُ على إمكانيَّةِ رفضِ مَحبَّةِ الله، وتحملُ معها خطورةَ كُلّ ما يصاحبُ ذلك من معاناةٍ. لكن هذا الحلّ يعني أن الله لا يزال يسمحُ بتطوُّرِ الشرّ في العالم حتَّى وإنْ لم يكنْ يوافق عليه. كما أنه لا يحلُّ مشكلةَ الكوارثِ الطبيعيَّةِ التي لا يمكن ردُّها إلى نتائج عصيان البشر لله.

 

يبدو أنَّ حقيقةَ الأمر هي أن الشرَّ مقدارٌ غيرُ منطقيّ في الكون، وهو مقدارٌ لا يمكنُ تفسيرُه أو التقليلُ من شأنه. لا يُفسِّر الكتابُ المُقدَّس أصلَه ولا يمكن تفسيرُ أصلِه. فربَّما لو كان من الممكن تفسيرُهُ لتوقَّفَ عن أن يكون شرَّاً. يقول الكتابُ المُقدَّس، أوَّلاً، إن الله يعارضُ الشرّ بشدَّةٍ، وبذلك لا يُنظَرُ إليه على أنه أصلُه؛ ثانياً، إن الله يعملُ للتغلُّبِ على الشرِّ، وإنه قد أظهرَ هذا في أسمى درجةٍ عندما سمحَ ليسوع أنْ يُخضعَ نفسَه لآثارِ الشرّ بموتِه؛ ثالثاً، إن اللهَ أقوى من الشرّ، وهذه حقيقةٌ أظهرَها في إقامةِ يسوعَ من الموت، وسوف تظهرُ في انتصارِهِ الأخير.

 

توجد صعوباتٌ في إرجاع أصل الشرّ إلى الله أو إلى قوَّةٍ مُستقلَّة؛ ينبغي أن نرضى ببقاء أصل الشرّ كلغزٍ، و لا يزال وجودُهُ أكبرَ اعتراضٍ يمكن تقديمُه ضدّ الإيمان المسيحيّ بالله. ومع ذلك، فإن الاعتراضَ أبعدُ ما يكونُ عن أن يكونَ حاسماً على الرغم من أنه لا بدّ من تقييمه والإجابة عنه باستمرارٍ. يمكن دحضه بالفهم المسيحيّ للصليب باعتباره الحدث الذي أعلنَ فيه اللهُ معارضتَهُ للخطيَّةِ، ومشاركتَه في معاناة البشر وتمكينَهم من التغلُّب عليها. قد يقترحُ المسيحيُّ أيضاً أنَّ غيرَ المؤمنِ لديه مشكلةٌ أكبر في شرحِ وجودِ الأشياء الصالحةِ والجميلةِ في عالمٍ ماديٍّ بحت.

 

طبيعةُ الخطيَّة وآثارُها (رومية 18:1 – 16:2)

 

على الرغم من غموضِ مصدرِ الخطيَّة، فإنَّ صفاتِها في حياة الناس واضحةٌ جدَّاً. يمكننا وصفُها من وجهاتِ نظرٍ ثلاث، فيما يتعلَّق بالله وبالناس الآخرين وبالخاطئ.

 

فيما يتعلَّق بالله، الخطيَّةُ تمرُّدٌ ضدّه. إنها عصيانٌ لمشيئته وهدفه المُعبَّر عنهما في الوصايا التي أعطاها للناس (التثنية 2:17؛ 1 ملوك 50:8؛ إشعياء 2:1؛ 10:63). الخاطىء شخصٌ يُخطئ تسديدَ الهدف بعدم بلوغه معايير الله للسلوك البشريّ (لوقا 18:15، 21؛ رومية 23:3). وهو يُقدِّم إخلاصه لآلهةٍ أخرى بدلاً من أن يُقدِّم لله العبادةَ والمَحبَّة اللتين يستحقّهما. وظهرَ ذلك في العالم القديم في عبادة الأصنام، أمّا جوهرُ عبادةِ الأوثان، في العالم القديم والعالم الحديث كليهما، فهو جعلُ شيءٍ آخر، غيرِ الله، هدفاً لأقصى ما للمرء من اهتمامٍ وعاطفة (الخروج 3:20–6؛ لوقا 13:12-21؛ 1 كورنثوس 14:10-22). الخطيَّة في الأساس رفضٌ لقبول الله باعتباره ربَّنا صاحبَ السلطان، وغالباً ما تُعبِّر عن نفسها في معرفة الله بطريقةٍ منحرفةٍ تنكرُ حقَّهُ ومَحبَّته (رومية 18:1-23؛ 2 كورنثوس 4:4).

 

فيما يتعلَّق بالناس الآخرين، الخطيَّةُ هي الفجورُ والظلمُ وانعدام ُالمَحبَّة (رومية 18:1-32، 9:13-10؛ 1 يوحنَّا 15:3؛ 8:4). تشيرُ هذه الكلماتُ كُلُّها إلى الموقف الذي يرفض معاملة الآخرين كأشخاصٍ لهم حقوقُهم الخاصَّة. يرفض الخاطئ احترامَ حقوقِ الآخرين ويُعطِّل شركةَ المَحبَّة التي هي هدف الله للناس. فالخاطئ يعامل الآخرين كوسائل بدلاً من غاياتٍ، وكأنّهم أشياء يمكنه استخدامُها لمتعتِه الخاصَّة بدلاً من كونهم أشخاصاً يجب مساعدتُهم لينعموا بملء الحياة. فالخاطئُ أشبهُ بطفلٍ يلهو بلعبةٍ ثم يقرَّر أنْ يربح بأيّ ثمنٍ، ويخالفُ قواعدَ اللعبةِ للتغلُّبِ على منافسيه. القواعدُ ضروريَّةٌ للإشارة إلى حقوق الأفراد المتنافسين؛ فهي تعبيرٌ عن بُنيةِ المجتمعِ ومُصمَّمةٌ لمنعِ أيّ فردٍ يُعطِّلُ تلكَ البنية وبالتالي يُفسِدُ حياةَ الآخرين.

 

فيما يتعلَّق بالنفس، تُعبِّر الخطيَّةُ عن نفسِها بالكبرياء والاكتفاء الذَّاتيّ والتمركز حول الذَّات (ملاخي 1:4؛ لوقا 51:1؛ يعقوب 6:4؛ 1 يوحنَّا 16:2). إنها موقف الشخص الذي لا يكتفي بأنْ يضعَ نفسه أوَّلاً ولكنه يستاءُ أيضاً من أيّ تدخِّلٍ من الخارج في إدارة حياته. فهو لا يهتمّ بأيّ شخصٍ إلَّا نفسِه ومتعتِه، ولا يشعر بالحاجة لمشورة الله أو مساعدته في إدارة شؤونه الخاصَّة ظانّاً أنه يستطيع الاستغناءَ عن الله.

 

وبالتالي، تُؤثِّر الخطيَّة على كُلّ علاقةٍ من علاقات الناس، ويمكن ملاحظة تأثيرها في كُلّ جزءٍ من الحياة؛ وشرُّ الخطيّة يُفسِد أفكارهم وأقوالهم وأفعالهم. المصطلح القديم لهذا التأثير السائد للخطيَّة هو "الفساد الكُلِّيّ". ولكن ينبغي عدمُ إساءة فهمه. لا يمكن إنكار اختلاف شخصٍ عن شخصٍ آخر بدرجاتٍ من الخير والشرّ. وحتَّى عند قياس الناس بمقياسٍ خارجيّ غير كافٍ مثل القانون العلمانيّ، فإنهم يختلفون اختلافاً واضحاً أحدُهم عن الآخر. ينبغي أيضاً عدمُ نسيانِ وجودِ الأعمال الصالحة حتَّى في أسوأ الناس. يميل المسيحيّون لإنكار احتمال كونِ غير المسيحيّين صالحين بأيّ شكلٍ من الأشكال على الإطلاق دونَ معونة المسيح. وهذا محضُ كذبٍ، وإلَّا فسوف تكون جميع مقارناتنا الأخلاقيَّة بين الناس غير منطقيَّةٍ. المقصود بالأحرى هو أنه لا يخلو أحدٌ منَّا من وصمة الخطيَّة. فجميعنا نعاني من مرضٍ يُؤثِّر على حياتنا كُلَّها بدرجاتٍ متفاوتة، ولا يستطيع أيٌّ منَّا علاج نفسه. لا يمكننا الموازنة بين أعمالنا الصالحة وأفعالنا الشرِّيرة، والزعمُ بأن أعمالنا الصالحة يجب اعتبارُ أنها تُلغي أفعالنا الشرِّيرة.

 

لا تعني حقيقة كوننا جميعنا خطاةٌ أننا فقدْنا صورة الله. فالكتاب المُقدَّس لا يشيرُ على الإطلاق إلى أن الخطيَّة تؤدي إلى فقدانِ طبيعةِ الإنسان الأساسيَّة ومصيرِه. ولكننا نتوقَّف عن إظهار طبيعة الله على النحو الأكمل كما يجب. إذا كان الناس قد خُلِقوا في الأصل صالحين، فيمكننا القولُ إننا فقدْنا هذا الصلاح، والكتاب المُقدَّس يُسهِبُ بالفعل في وصفه لحالة القلب البشريّ (التكوين 21:8؛ إرميا 9:17؛ رومية 9:3-18). وهذه حالتنا جميعاً. تتكرَّر خطيَّة آدم في حياة جميع الناس. والميل الشرِّير موجودٌ منذ الولادة (المزمور 5:51). يشير علماء اللاهوت إلى هذا على أنه "الخطيَّة الأصليَّة"، بمعنى أنّ إثمنا شيءٌ موجود في حياتنا منذ البداية؛ فنحن نرث طبيعةً خاطئة، ونعيش في بيئةٍ خاطئة تُغذِّيها وتغويها للفعل الخاطئ. نولَدُ كأفرادٍ متمركزين حول الذَّات وميلُنا الطبيعيّ هو التفكيرُ في أنفسنا وتجاهلُ مطالب الله والآخرين. والغرض من تربيتنا وتعليمنا هو فطامُنا عن التمركز حول الذَّات. وبهذه الطريقة يمكن عملُ الكثير لملاءمتنا للحياة في المجتمع، ولكن دون تغيير طبيعتنا الأساسيَّة، فالخطيَّة تستمرُّ في وجودها في حياتنا مُنتجةً آثارَها.

 

ما آثارُ الخطيَّة إذاً؟ يجبُ ألَّا ننسى أنَّ وجودَ الشرّ له آثارٌ "كونيَّة" أشرنا إليها بالفعل. يُنظَرُ في الكتاب المُقدَّس إلى الكوارث الطبيعيَّة والعمل الشاقّ غير المُجدي والمرض وما إلى ذلك على أنها انعكاساتٌ لحقيقة كون الكون ككُلٍّ، وليس فقط البشر، لا يحقِّقُ النمطَ السماويّ المقصود؛ فنحن نعيش في "عالمٍ ساقط" (راجع التكوين 14:3-19؛ رومية 19:8-22). لكنّنا نركّز هنا على آثار الخطيَّة البشريَّة.

 

أوَّلاً ، تُؤدِّي الخطيَّة إلى المعاناة، لكُلٍّ من المذنبين والأبرياء، أي للخطاة وللمتضرِّرين من أفعال الخطاة. فالخطيَّة تنتهكُ النمط الإلهيّ للحياة. تكسر شركةَ المرءِ مع جيرانه وتُقسِّي قلب الخاطئ كيلا يُبدي مَحبَّةً للآخرين، وتفصلُه عن الشركة مع الله. تجلب عواقبها الكريهة في هذه الحياة، بالإضافة إلى دينونة الله الأخيرة (رومية 18:1-32؛ 5:2؛ غلاطية 7:6). من أبشع خصائص الخطيَّة أنها لا تُؤثِّر على الخاطئ فحسب، بل أيضاً على مجموعةٍ من الآخرين الذين لم يكن لهم دورٌ في الخطيَّة عينها التي ارتكبها الخاطئ.

 

ثانياً، الخطيَّة تستعبد الخاطىء. فهي ليست مُجرَّدَ مسألةِ أفكارٍ وأفعالٍ خاطئةٍ منعزلة. الخطيَّةُ قوَّةٌ شرِّيرة تتحكَّم في قلب الشخص وإرادته، وتكتسب قبضةً أكثر صرامة عليه حتَّى يصبح عاجزاً أكثر فأكثر عن فعل الصواب والصلاح. قد يكون المرء في بعض الأحيان ضحيَّةً غير واعيةٍ وراغبة؛ وفي أحيانٍ أخرى قد يصرخُ ضد القوَّة الشرِّيرة التي تُمسِكه كالسرطان ولا تدعُهُ يفلتُ منها (رومية 14:7-20).

 

ثالثاً، تُؤدِّي الخطيَّة إلى الشعور بالذنب. غالباً ما يُستخدَم تعبير "الشعور بالذنب" للإشارة ببساطةٍ إلى الشعور الذَّاتيّ بالعار الذي قد يراود الشخص أو لا يراوده بعد ارتكابه الخطأ. قد يُقدِّمُ علماءُ النفس علاجاتٍ لحالات الشعور بالذنب، وتكون لهذه العلاجات قيمتُها عندما يراود الشخص شعورٌ غير عقلانيّ بالذنب. أمّا الاستخدامُ اللاهوتيّ " للشعور بالذنب" فيشبهُ الاستخدامَ القانونيّ. إنه وضعٌ ذاتيّ في نظر القانون أو في نظر الله. فهو الحالة عند انتهاكِ القانون أو رفضِ مشيئة الله، وهو أمرٌ حقيقيّ ولا جدالَ فيه سواء كان الشخص يشعر "بالذنب" إزاء ما عمله أو لا يشعر به. الشعور بالذنب يعني المسؤوليَّة لتلقّي الإدانة والعقاب؛ يقفُ الخاطئُ مُداناً في نظر الله (رومية 19:3؛ يعقوب 10:2).

 

رابعاً، وهكذا تُؤدِّي الخطيَّة إلى العقاب. تُعبِّر كلمة "العقاب" في الاستخدام العاديّ عن مجموعةٍ مُتنوِّعةٍ من العناصر. قد يكون العقابُ مُصمَّماً لردع المجرمين عن الجريمة، أو قد يكون المقصودُ منه كبحَ مجرمٍ مُعيِّن من أعمالٍ إجراميَّة أخرى، أو قد يشمل محاولةَ إصلاح المجرم عن طريق تحويل شخصيَّته الشرِّيرة إلى شخصيِّةٍ أفضل، أو ربَّما يجمع بين هذه السمات. ولكنه قد يتضمَّن أيضاً عنصرَ قصاصٍ. يُنظَر إلى ذلك في حقيقة أن العقاب لا يُوقَع إلَّا على المذنب، في حين أنّ محاولاتِ ردعِ المجرمين أو المجرمين المحتملين أو كبحِهم أو إصلاحِهم يجب ألَّا تقتصرُ على أولئك الذين انتهكوا القانون بالفعل. فالقصاص يعني تعزيزَ القانون ضدَّ من ينتهكونه. والقانونُ ليس قانوناً إذا كان من الممكن انتهاكُه والإفلاتُ من العقاب دونَ بذلِ أيَّةِ محاولةٍ لفرضِه. ليس العقابُ مجرّدَ رادعٍ للناس من انتهاك القانون مرَّةً أخرى، وهو ليس مُجرَّدَ مُثبِّطٍ للناس ضدّ عصيانٍ متوقَّع: "لن أفعل كذا لأنه إذا فعلت ذلك فسوف أضطَّرُ لدفعِ غرامة". إنه ينطوي على فكرة تقديم نوعٍ من الإرضاء للقانون المُنتهَك. وعلى مستوىً شخصيّ أكثر، يرادف هذا الإحساس بأنه إذا آذينا شخصاً ما أو أسأنا إليه فعلينا عملُ شيءٍ "للتعويض" عن الإصابة.

 

وبالتالي، فإنَّ فكرةَ العقابِ أو العقوبة فكرةٌ مُعقَّدة، وتدخل العناصرُ المُتنوِّعةُ المذكورةُ في الطريقة التي يُقال بها إن الخطيَّة تُؤدِّي إلى عقوبةٍ. تتلخَّص العقوبة في كونها الموت، أي توقُّف الحياة الإلهيَّة في الإنسان. وبسبب الخطيَّة تنكسرُ الشركة وينقطعُ التواصلُ مع الله؛ فالخاطئ يخافُ من محضر الله (التكوين 8:3؛ لوقا 8:5؛ 1 يوحنَّا 28:2)؛ وينتقلُ من رعاية الله إلى قوَّة الخطيَّة (رومية 24:1-26). يمكن القول إنّ الخاطئَ يموتُ روحيَّاً وهو لا يزالُ على قيد الحياة جسديَّاً. والموت الجسديُّ نفسُه رمزيٌّ وجزءٌ من هذا الموت الروحيّ (التكوين 16:2-17؛ رومية 12:5-14؛ 23:6). وأخيراً، يعاني الخاطئُ من الانعزالِ التامّ عن محضر الله، ويُشار إلى هذا بأنه الجحيم أو الموت الثاني (متَّى 41:25؛ 2 تسالونيكي 9:1؛ الرؤيا 11:20-15). تجلب الخطيَّةُ عواقبَها الخاصَّة بمعنىً حقيقيّ جدَّاً؛ فهي بطبيعتِها تُدمِّرُ الذَّات، وتفصل الناسَ عن الله باعتبارهِ مصدرَ الحياة. ومع ذلك، فإن هذه العمليَّةَ ليست تلقائيَّةً كما أنّها ليست شخصيَّة، فهي تحدُثُ أساساً بمشيئة الله الذي ليس بوسعه سوى أن يطرح الخاطئين غير التائبين من محضره مع أنه يتوقُ لردّهم عن خطيَّتهم إلى البرّ.

 

وبالتالي، يصبحُ الخاطئ في حالة موتٍ حتَّى في هذه الحياة (أفسس 1:2-5)، فهو في حاجةٍ ماسَّة للإنقاذ قبل أن تُؤدِّيَ حالتُه التعيسةُ إلى الدينونةِ النهائيَّة. كيف يكون الإنقاذُ ممكناً؟ يتَّجه انتباهُنا بشكلٍ طبيعيّ إلى آدم الثاني الذي "جاء للجهاد والإنقاذ". ينبغي أن ننظرَ الآن في الخليقة الجديدة التي يُلغي فيها الله آثارَ الخطيَّة في العالم الحاضر من خلال يسوع المسيح.

 

أسئلة للدراسة والمناقشة

  1. ما هو شعورُك من جهة تصريحِ مارشال بأن الكتاب المُقدَّس لا يحتوي على علمِ كونيَّاتٍ علميّ لأنه لو كان الأمر كذلك لما تمكَّنا من فهمه؟

  2. ماذا عن تعليقه بأن العلمَ يهتمّ بأسئلة "ماذا" و"كيف" المرتبطة بالخلق وبأنّ الكتابَ المُقدَّس يهتمّ بأسئلة "لماذا"؟

  3. كيف تختلف طريقةُ عيشِ المؤمن بمذهب الربوبيَّة أو من يؤمنُ بمذهبِ وحدةِ الوجود عن طريقة عيشِ المسيحيّ المؤمن؟

  4. أيٌّ من التعبيراتِ: "كُلِّيّ القدرة، كُلِّيّ المعرفة، كُلِّيّ الوجود" يُؤثِّرُ عليك التأثيرَ الأكبر؟

  5. الإيمانُ لا يعني تصديقَ ما تعرفُ أنه غيرُ صحيحٍ ولكنه تصديقُ شيءٍ ما رغمَ العقباتِ الكبيرة التي تعترضه. ناقش.

  6. ناقش ما يعنيه التعليم الكتابيّ بأن البشر مصنوعون على صورة الله. هل لا يزال الناس يحتفظون بتلك الصورة؟ بأيَّة نواحٍ نختلف عن الحيوانات؟ هل لهذا أيّ تأثيرٍ على معتقداتنا فيما يتعلَّق بالإجهاض والقتل الرحيم وحقوق الحيوان؟

  7. "لا يهتمّ الكتاب المُقدَّس بتقديمِ تقريرٍ علميّ عن أصلِ البشر ولكنه يُصرُّ على الخلق الإلهيّ لهم وطبيعتهم الروحيَّة". ناقش هذا البيان وناقش الكيفيَّة التي يوازنُهُ بها مارشال مع ما يلي: "نُؤكِّدُ على أنه يجدرُ بنا أن نتذكَّر أنَّ التطوُّرَ البيولوجيّ يبقى فرضيَّةً علميَّة، وهي النظريَّةُ الأكثرُ قبولاً بصفةٍ عامَّة بالإجماع، ولكنها، مثلُ كُلِّ فرضيَّةٍ علميَّة، قابلةٌ للدحضِ وقبولِ نظريِّةٍ أفضل منها عوضاً عنها."

  8. "قد يتجمَّع قدرٌ كبير من التعليم الكتابيّ عن الإنسان حول تفسير هذه المقاطع الثلاثة (المزمور 3:8-4؛ يوحنَّا 17:7-18؛ العبرانيّين 6:2-9) التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً" (ه. و. روبنسون): ناقش السؤال "ما هو الجنس البشريّ؟" في ضوء هذه المقاطع.

  9. كيف سيكون الحال إذا عشْنا دون أن نسعى لخيراتنا الأبديَّة بل لمجد الله؟ كن مُحدَّداً وواضحاً في إجاباتك.

  10. لا جدالَ في أنّ مشكلة وجودِ الألم والمعاناة مشكلةٌ أساسيَّة، ومن المشكوك فيه أنه يمكنُكُ حلَّها في وقتٍ واحد. ومع ذلك، ما الذي تعلَّمتَه من مارشال وقد يساعدك على طريق الاستكشاف؟

  11. قد يصعب على بعض الناس التعاملُ مع أمانةِ مارشال في طرحِ الأسئلة التي يثيرُها الألم والمعاناة. هل يبالغ في المشكلة أو يُقلِّل من شأنها؟

  12. أيٌّ من إجابات مارشال عن المشكلة كان الأكثرَ إفادة؟

  13. يقول كتابٌ يهوديّ قديم: "كُلّ واحدٍ منَّا هو آدم لنفسه". ناقش هذا البيان فيما يتعلَّق بتعليم بولس في رومية 12:5-21.

  14. "المفهوم الشائع بأن الخطيَّة هي الأنانيَّة يكشفُ تقييماً زائفاً عن طبيعتها واستفحالها" (جيه. موراي): ما هي وجهة النظر الكتابيَّة إذاً عن جوهر الخطيَّة؟