Loading...

دليل المعتقدات المسيحيَّة - Lesson 8

الأمور الأخيرة

يهتمّ علم الأخرويَّات بالتدخُّل الأخير لله في التاريخ لإنهاء العالم الحاضر الشرِّير ولبدء العالم الجديد. لكن فعل الله هذا لا يقتصر على المستقبل لأن الله بدأ خليقته الجديدة في مجيء يسوع وتأسيس الكنيسة. جرت العادة على فهم النبوَّات المُتعلِّقة بالأيَّام الأخيرة على أنها كانت تتحقَّق في الأيَّام الأولى للكنيسة. ولذلك، لكي نفهم ما سوف يحدث في المستقبل نحتاج إلى تلخيص قدرٍ من القصَّة الكتابيَّة حتَّى نضع المستقبل بعين الاعتبار.

I. Howard Marshall
دليل المعتقدات المسيحيَّة
Lesson 8
Watching Now
الأمور الأخيرة

Lessons
Transcript
  • ما دام الله قد أوحى بالفعل بالكتاب المُقدَّس، ربَّما يسأل أحدهم عن سبب دراسة العقيدة المسيحيَّة قائلاً: هل يكفي بالتأكيد أن يدرس المرء الكتاب المُقدَّس دون الانشغال بمسألة العقيدة؟ ربَّما تكون أبسط إجابةٍ عن هذا السؤال هي أن أيّ شخصٍ يدرس الكتاب المُقدَّس إنَّما يدرس العقيدة في الواقع. المناقشة المنهجيَّة للاهوت المسيحيّ سوف تنقل الطالب إلى العديد من مصادر المعرفة ومجالات التفكير. وسوف يكون هدفنا هنا هو الهدف الأكثر تواضعاً المُتمثِّل في محاولة وضع التعليم الكتابيّ الذي يُشكِّل أساس اللاهوت المسيحيّ.

  • تخبرنا العقيدة المسيحيَّة بما يؤمن به المسيحيّون عن الله. ولكن قبل أن نتمكَّن من مناقشة ما نؤمن به عن الله، ينبغي أن نعالج السؤال الأوَّليّ حول كيفيَّة التعرُّف على الله وعلى وجوده وطبيعته وأفعاله. فهذا السؤال له أهميَّةٌ حاسمة لأن الاختلافات بين المواقف اللاهوتيَّة المُتنوِّعة التي يعتنقها المسيحيّون غالباً ما تعتمد على اختلافاتٍ في طريقة التفكير بخصوص كيفيَّة معرفة الله.

  • على الرغم من أننا لا نستطيع معرفة الله بالبحث، فإن الله كشف لنا نفسه بطُرقٍ يمكننا فهمها. بما أننا مخلوقاتٌ مصنوعة على صورة الله (التكوين 26:1)، من الممكن أن يكون لنا بعض الفهم عن الله الذي صنعنا. كشف الله عن نفسه بلغة البشر، وبما أننا ندرك أن لغة البشر وسيلةٌ صادقة لكنها غير كافيةٍ لتوصيل حقيقة الله، يمكننا إحراز بعض التقدُّم في الفهم. لاءم الله نفسه بلطفه لعقولنا الضعيفة والخاطئة من خلال التكلُّم إلينا في إعلانٍ شخصيّ، ولذلك ينبغي أن نتذكَّر أن الشخص نفسه أعظم من الإعلان. علينا أن نتذكَّر أنه أبعد من نطاق فهمنا وأن الكلمات البشريَّة لا يمكنها التعبير عنه كما يحقّ وأنه لا يزال بإمكاننا أن نقول المزيد عنه.

  • القصَّة التي تدور في الكتاب المُقدَّس من سفر التكوين إلى سفر الرؤيا هي قصَّة كيفيَّة خلق الله العالم وسقوط العالم في الخطيَّة وتمرُّده عليه وكيفيَّة بدء الله عمليَّة خلقٍ جديد سوف يستمرّ لحين انتهاء كُلّ أثرٍ للخطيَّة. البشر ذروة خليقة الله وتاجها لأنهم صورة الله على عكس المخلوقات الأخرى (التكوين 26:1-27). وسريعاً ما تبع خلق البشر دخول الشرّ في قلوبهم. فقد خُلِقوا بإمكانيَّة الاختيار بين الصواب والخطأ وبين طاعة الله وعصيانه. لكنهم اتَّخذوا القرار الخاطئ بتحريضٍ من المُجرِّب فدخلت الخطيَّة العالم بجميع عواقبها الرهيبة.

  • الموضوع الرئيسيّ للاهوت المسيحيّ الذي يضفي عليه طابعه المسيحيّ هو مجيء يسوع إلى العالم مُخلِّصاً إيَّاه من الخطيَّة. ومجيئه على حدٍّ سواء إعلانٌ عن طبيعة الله المُقدَّسة المُحبَّة كما أنه فعل المَحبَّة السامية الذي يصالح به الله الخطاة لنفسه.

  • المرحلة التالية في دراسة العقيدة المسيحيَّة تراعي النظر في الحياة الجديدة التي يهبها الله لمن يقبلون يسوع مُخلِّصاً لهم من الخطيَّة. سوف نبدأ بالنظر إلى كلمتين عامَّتين تُستخدَمان لوصف اختبارنا كمسيحيّين، ثم نناقش أربعة جوانب مختلفة للحياة المسيحيَّة، وسوف ننظر أخيراً في طبيعة استجابتنا لهبة الله المُتمثِّلة في الخلاص والحياة الأبديَّة.

  • لا يمكن للمرء أن يصبح مسيحيَّاً بمُجرَّد الإيمان بيسوع المسيح دون أن يصبح في الوقت نفسه عضواً في شعب الله مع جميع إخوته المؤمنين وأن يشارك في حياة الكنيسة. في الواقع، لم يكن من الممكن أن نعرف يسوع دون شهادة المسيحيّين الآخرين وعملهم في ترجمة الكتاب المُقدَّس وتوزيعه وصلواتهم من أجلنا. لم يأتِ يسوع لخلاص الناس بمعزلٍ عن بعضهم البعض بل لتأسيس مجتمعٍ جديد من الناس يعملون على بنيان بعضهم البعض في الإيمان وكرازة العالم. ينبغي علينا الآن استكشاف معنى الكنيسة ومهامها.

  • يهتمّ علم الأخرويَّات بالتدخُّل الأخير لله في التاريخ لإنهاء العالم الحاضر الشرِّير ولبدء العالم الجديد. لكن فعل الله هذا لا يقتصر على المستقبل لأن الله بدأ خليقته الجديدة في مجيء يسوع وتأسيس الكنيسة. جرت العادة على فهم النبوَّات المُتعلِّقة بالأيَّام الأخيرة على أنها كانت تتحقَّق في الأيَّام الأولى للكنيسة. ولذلك، لكي نفهم ما سوف يحدث في المستقبل نحتاج إلى تلخيص قدرٍ من القصَّة الكتابيَّة حتَّى نضع المستقبل بعين الاعتبار.

8

 

الأمور الأخيرة

 

كلمةُ "الأخرويَّاتِ" واحدةٌ من أكثرِ المصطلحاتِ استخداماً في علم اللاهوت الحديث. وبحسب مفهومِها الدقيق تعني "عقيدة الأمور الأخيرة"، ونفهمُها هنا بهذا المعنى. يهتمُّ علمُ الأخرويَّات بتدخُّلِ الله الأخير في التاريخ لإنهاءِ العالمِ الشرِّير الحاليّ، وبدءِ العالم الجديد. لكنَّ عملَ اللهِ هذا لا يقتصرُ على المستقبل، لأنَّ اللهَ بدأَ خليقتَهُ الجديدةَ في مجيءِ يسوعَ وتأسيسِ الكنيسة. كانتِ النبوَّاتُ المُتعلِّقةُ بالأيَّامِ الأخيرةِ تُفهَمُ على أنها سوف تتحقَّقُ في الأيَّامِ الأولى للكنيسة (أعمال الرُسُل 17:2). ولذلك، يجبُ أنْ نُلخِّصَ قدراً من القصَّةِ الكتابيَّةِ حتَّى نضعَ المستقبلَ في الاعتبار كي نفهمَ ما سيحدث فيه.

 

الإظهارُ الأخيرُ لحُكمِ الله الملكيّ (لوقا 69:1-79)

 

كان أنبياءُ إسرائيل رجالاً تأثَّروا تأثَّراً هائلاً بالشرِّ والظلمِ اللذين انتشرا في كُلِّ مكانٍ في العالم. رأوا أنه حتَّى شعبُ إسرائيل كانوا خطاةً في نظر الله، وفسَّروا الكوارثَ المختلفة التي ضربَتْهُمْ على أنها دليلٌ على دينونة الله لشعبه. تحيَّروا في مشكلةِ معاناةِ الصدِّيقين ونجاحِ الأشرار، وتاقوا إلى إرساءِ السلام والأمن في العالم. بَيْدَ أنهم استمرَّوا وسطَ هذه المشكلاتِ والتساؤلات في إيمانهم بيهوه على أنه إلهُ التاريخ، وآمنوا أنه يوماً ما سوف يتدخَّلُ بنفسه في التاريخ لتأسيسِ حُكمِه الملكيِّ بين البشرِ، وإرساءِ الحقِّ والعدلِ والمَحبَّةِ بين البشر. كانوا يَنْشدون يوماً تكون فيه أورشليمُ مركزَ عالمٍ يسودُهُ السلام، ويحكمُ فيه نسلُ داود الأمم، ويأتي بالخلاص لنا جميعاً. باختصارٍ، آمنوا أنَّ الله سوف يتدخَّلُ شخصيَّاً في الأيَّامِ الأخيرة لتأسيسِ حُكمِهِ (إشعياء 1:9-7؛ 1:11-9؛ ميخا 1:4-7).

 

في ملءِ الزمان أرسلَ اللهُ ابنَهُ، يسوعَ المسيَّا، لبدءِ حُكمِهِ الملكيِّ بين البشر. أعلن يسوع أنَّ حُكمَ اللهِ الملكيَّ كان يبدأ بطريقةٍ جديدة، وبالفعل كان يوجدُ الكثيرُ من الأدلَّةِ للذين استطاعَتْ عيونُهم أنْ ترى الله يتدّخلُ في حياةِ العالم من خلال يسوع. وقد صاحبَتْ مجيءَ يسوع علاماتٌ وعجائبُ جعلتِ الناسَ يقولون: "افْتَقَدَ اللهُ شَعْبَهُ" (لوقا 16:7)، وبعد موت المسيحِ وقيامتِهِ حلَّ الرُّوحُ القُدُسُ على الكنيسة (راجع يوئيل 28:2-32)، وبالتالي استمرَّ عملُ الله. دعا يسوعُ جميعَ الناس لدخولِ ملكوتِ الله، وأعلن تلاميذُهُ الخبرَ السارَّ نفسَه عن الخلاص بالإيمان به.

 

لقد حلَّ بالفعل العصرُ الجديدُ الموعودُ به في العهد القديم. ومع ذلك، لم يعنِ هذا أنَّ العصرَ القديمَ قد انتهى. فرسالةُ الإنجيلِ لم تُقبَلْ على مستوى العالم، واستمرَّتْ سيادةُ الخطيَّةِ والموت. أمَّا العصرُ الحاليّ، منذُ مجيءِ يسوع، فهو فترةٌ انتقاليَّةٌ أو تداخليَّةٌ. دِينَ العصرُ القديمُ، وحُكِمَ عليه أخيراً، وحلَّ العصرُ الجديدُ للذين يعترفونَ بالإيمان بوجود المسيحِ وقوَّته. وهكذا يعيشُ المسيحيّون كأعضاءٍ للعصرِ الجديد ِفي خِضَمِّ العصرِ القديم. وفَّرَ اللهُ برحمته هذه "الفترةَ الفاصلة" قبل أنْ يُقرِّرَ نهايةً أخيرةً للعصر القديم، حتَّى تتسنَّى لجميعِ الناسِ فرصةٌ ليسمعوا الإنجيل، ويصبحوا مواطنين في العصرِ الجديد (مرقس 10:13؛ 2 بطرس 9:3).

 

يتَّضحُ من هذا كُلِّه أنَّ "الأمورَ الأخيرةَ" قد بدأتْ بالفعل. فوعودُ الله فيما يتعلَّقُ بالنهايةِ بدأتْ تتحقَّقُ في يسوع، كما أنّ قوّاتِ المستقبل تعملُ حقاً الآن. فمجيءُ يسوع هو الدليلُ على أنَّ اللهَ سوف يُنهي يوماً ما العصرَ القديمَ تماماً، وعلى أساسِ ما فعلَهُ اللهُ بالفعل يتطلَّعُ المسيحيّون بكل ثقةٍ إلى المستقبل متوقّعين أنْ يكملَ اللهُ مقاصدَه.

 

لقد بدأ اللهُ عهدَهُ! وذلك هو معنى المجيءِ الأوَّلِ ليسوع. ولكنَّنا لا نرى بعدُ جميعَ الأشياءِ خاضعةً له (راجع العبرانيّين 8:2). الرجاءُ المسيحيُّ هو أنَّ اللهَ الذي بدأَ الحُكمَ في يسوعَ المسيحِ سوف يحكمُ البشريَّةَ كُلَّها يوماً ما علانيةً. سوف تنتهي الفترةُ المُؤقَّتةُ الحالية. وسوف يتوقَّفُ عصرُ الشرّ، وسوف يُؤسِّسُ اللهُ سماءً جديدةً وأرضاً جديدةً يسودُهما البرّ. سوف يدينُ البشريَّةَ كُلَّها، وسيصبحُ الذين خضعوا لحكمه مواطنين في أورشليمَ الجديدة، مدينةِ الله، ويملكون معه إلى الأبد. سوف يتحقَّقُ هذا كُلُّه من خلالِ مجيءِ يسوعَ ثانيةً مُخلِّصاً وديَّاناً للبشريَّةِ كُلِّها.

 

هذا هو المنظورُ الذي يستندُ إلى خلفيَّةِ النبوَّةِ الكتابيَّةِ وتحقيقِها الأوَّليِّ في المسيح. والآن ينبغي علينا ملءُ التفاصيل.

 

المجيءُ الثاني ليسوع (لوقا 20:17-37)

 

يتركَّزُ الرجاءُ المسيحيُّ على عودةِ يسوع. فما بدأَهُ في مجيئِهِ الأوَّلِ لا يكتملُ إلَّا بمجيئِهِ الثاني. يتطلَّعُ الرجاءُ المسيحيُّ إلى المسيح على أنه تحقيقٌ لجميعِ توقُّعاته لأنَّ مركزَ الخلاصِ المسيحيِّ ومصدرَه هو يسوع. ينبغي لذاك الذي جاءَ في تواضعٍ أنْ يأتيَ ثانيةً في مجد،ٍ ويتبرَّرَ علانيةً أمامَ العالمِ كُلِّه. وهذا يعني أنه لا يوجدُ المزيدُ ليُكشَفَ عنه، فالمجيءُ الأوَّلُ ليسوع أتى بالإعلانِ الكاملِ والتامِّ لله، وتقديمِ الكفّارةِ عن خطيَّةِ العالمِ مرّةً إلى الأبد. لا يمكنُ إضافةُ أيِّ شيءٍ آخرَ إلى هذا الإعلانِ الأخيرِ لله. وبالتالي فإنَّ مجيءَ يسوع ثانيةً لا يأتي بشيءٍ جديدٍ، لكنّهُ يُكمِلُ ما بدأه بالفعل وحسب. فيسوع الذي سيأتي هو الذي نعرفُهُ بالفعلِ باعتبارِهِ ديَّانَنا ومُخلِّصَنا.

 

على الرغم من التعليمِ الواضحِ والوافِرِ في العهدِ الجديدِ لحقيقةِ عودةِ يسوع، فإنَّ تفاصيلَ ما سيحدثُ أبعدَ ما تكون عن الوضوح، ويجب ألَّا يتزمَّتَ أحدٌ بخصوصِها. فلا يمكنُ وصفُ حدثٍ هائلِ كاختتامِ التاريخِ البشريِّ إلَّا بِلُغةٍ رمزيَّةٍ ومجازيَّة، تماماً مثلما لا نتحدَّثُ عن الخلقِ أو طبيعةِ الله أو التجسُّدِ إلَّا بلغةٍ رمزيَّة. ولا يُقصَدُ من الرموزِ أنْ تُفهَمَ حرفيَّاً: فمن السخرية بوضوحٍ وصفُ شخصٍ له سيفٌ حادٌّ يخرجُ من فمِهِ على سبيل المثال، ولكنّ هذا منطقيٌّ في حالِ فهمِهِ على أنه يوحي بالطبيعةِ القويَّةِ لأقواله (الرؤيا 16:1). عندما نفهمُ الرموزَ على حقيقتِها، فإنها تُخبِرُنا بالمبادئِ المُهمَّةِ التي تنطوي عليها الأحداثُ المستقبليَّة. ولسوءِ الحظ، يجدُ المؤمنونَ المسيحيّون صعوبةً في مقاومةِ إغراءِ عرضِ التفاصيلِ في نساقاتٍ مُرتَّبة، ونتيجةً لذلك ظهرَ الكثيرُ من التكهُّناتِ غيرِ المُبرَّرةِ بشأنِ المجيءِ الثاني، وكثيراً ما يندفعُ المسيحيّون في صراعٍ حادٍّ عندما يدافعون عما لديهم منْ تفسيراتٍ متنافسةٍ لأدلَّةٍ غامضة. من الأفضلِ الاعترافُ بجهلِنا بالتفاصيل، وتركيزُ اهتمامِنا على المركزيَّاتِ غيرِ الغامضةِ، وآثارِها الرُّوحيَّة.

 

تكلَّمَ يسوعُ نفسُهُ بوضوحٍ عن مجيئِهِ الثاني باعتبارِهِ ابنَ الإنسانِ ليكون الحَكَمَ على مصيرِ الإنسان (متَّى 31:25-33؛ مرقس 38:8؛ 26:13؛ 62:14). كما أشار إلى أنَّ مجيئَهَ سوف تسبقُهُ أحداثٌ مُتنوِّعة: ظهورُ مُخلِّصين كذبة، واضطهادُ شعبه، واستشراءُ شرِّ البشر (مرقس 1:13-25؛ قارن 2 تسالونيكي 3:2-12؛ 2 تيموثاوس 12:3-13)، لكنه قال بمنتهى الوضوح إنه لا يمكنُ لأحدٍ معرفةُ تاريخِ مجيئِهِ (لوقا 20:17-21؛ أعمال الرُسُل 7:1)، وإنَّ الآبَ وحدَهُ هو منْ يعلمُ متى سيكون (مرقس 32:13). في الواقع، تكاد لا توجدُ أيَّةُ فترةٍ لم يكنْ فيها مُخلِّصون كذبة، واضطهادٌ للكنيسة، واستشراءٌ للشرّ، وقد يميل المرءُ للقول بأنَّ مجيءَ يسوع يمكن أنْ يحدثَ في أيِّ وقتٍ. آمنتْ الكنيسةُ الأولى بهذا بالتأكيد، وحثَّتْ أعضاءَها على الاستعدادِ لحدثٍ قد يفاجئُهم مفاجأةً كبرى.

 

وبالتالي، يقترنُ التعليمُ عن المجيءِ الثاني عموماً بحثِّ المؤمنين ليحيوا حياةً مُقدَّسةً استعداداً لذلك اليوم (أعمال الرُسُل 19:3-21؛ فيلبّي 20:3-21؛ 5:4؛ كولوسي 4:3-5؛ 1 تسالونيكي 9:1-10، 2 تيموثاوس 1:4-2؛ العبرانيّين 28:9؛ 1 بطرس 7:1؛ 1 يوحنَّا 28:2؛ الرؤيا 7:1). ينبغي ألَّا نتراخى انتظاراً لذلك اليوم بل نحيا بطريقةٍ تليقُ بالعبيد الذين ينتظرون رجوعَ سيِّدهم (راجع لوقا 35:12-48). لا يعني هذا بالطبع أنَّ المؤمنينَ المسيحيّين يخدمون ربَّاً غائباً، وأنَّ دافِعَهُمْ لعملِ الخير هو الخوفُ من مجيءِ سيِّدِهم ومباغتتِهم. ينبغي عدمُ المبالغةِ في فهمِ التصويرِ الواردِ في أمثالِ العبيد الذين ينتظرون عودةَ سيِّدهم. فنحن نعيشُ باستمرارٍ في حضرةِ السيِّد، ونتمتَّعُ بشركتِهِ يوميَّاً. وإذا كان يسوعُ غائباً عن أعينِنا فإنه بالرغم من ذلك موجودٌ معنا روحيَّاً، ولا شيءَ نفعلُهُ يمكنه أنْ يقطعَ تلك الشركة.

 

على الرغم من أنَّ مجيءَ يسوع لا يمكنُ حسابُهُ مُقدَّماً، فهناكَ تعليمٌ واضح إلى حدٍّ ما بأنه سوف تسبقُهُ محاولةُ الشرِّ الأخيرةُ للتغلُّبِ على الله. يتحدَّثُ بولس عن شخصٍ يحاولُ اغتصابَ مكانةِ الله (2 تسالونيكي 3:2-12)، وهو ضدُّ المسيح (على الرغم من أنَّ بولس لا يستخدم ذلك التعبير). يُؤكِّد يوحنَّا على أنه يوجدُ أضدادٌ كثيرون للمسيح يعملون بالفعل في العالم (1 يوحنَّا 18:2)، ولكن هذا لا يستبعدُ طفرةً هائلةً أخيرةً للشرِّ ضدَّ الله. إذا أخذنا على محملِ الجدّ الأوصافَ في سفر الرؤيا عن وجود صراعٍ أخير (الرؤيا 11:19-21؛ 7:20-10)، نراها تشيرُ في الاتّجاه نفسه، على الرغم من أنَّ بعضَ العلماءِ يعتقدون أنَّ يوحنَّا إنَّما يُصوِّرُ الصراعَ الذي يحدثُ دائماً بين الخير والشرّ، أي بين الله وإبليس بمصطلحاتٍ تصويريّةٍ حاسمةٍ ومُحدَّدة. من الأحكم الاعترافُ بأننا لا نعرفُ بالضبط ما سوف يحدث. وما نعرفه هو أنه مهما كانتْ قوَّةُ الشرِّ فإنها لا يمكنُها في النهايةِ التغلُّبُ على قوَّةِ الله. فالشرُّ سوفَ يُهزَمُ بالتَّأكيد.

 

يصفُ أحدُ المقاطعِ في العهدِ الجديدِ حُكمَ المسيحِ وشعبِهِ لمدَّةِ ألفِ سنةٍ (أي الألفيَّة) (الرؤيا 1:20-6). وقد تسبَّبَ معناهُ في إثارةِ جدلٍ كبير، وطُرِحَتْ ثلاثُ وجهاتِ نظرٍ رئيسيَّةٍ عُرِفَتْ باسمِ ما قبلَ الألفيَّة وما بعدَ الألفيَّة واللا-ألفيَّة. ما قبل الألفيَّة هي وُجهةُ النَّظرِ القائلةِ بأنَّ المجيءَ الثاني ليسوع يسبقُ حُكمَهُ على الأرض مع شعبه (بما في ذلك المسيحيّين الأمواتُ الذين أقيموا) لمدَّةِ ألف سنةٍ، وبعد ذلك سوف تكونُ القيامةُ العامَّةُ للأموات، أي يومُ الدينونةِ والحياةُ في السماء. غالباً ما ترتبِطُ وُجهةُ النّظرِ هذه بالاعتقاد بأنَّ بعضَ نبوَّاتِ العهدِ القديم عن شعبِ إسرائيل سوف تتحقَّقُ خلال هذه الفترة. وما بعد الألفيَّة هي وُجهةُ النّظرِ القائلة بأنَّ المجيءَ الثاني يتبعُ نصرةَ الإنجيلِ النهائيَّةَ في العالم، بحيث تكون فترةُ النصرةِ هذه هي الألفيَّة. أمَّا اللا-ألفيَّةُ فهي وُجهةُ النَّظرِ القائلةُ بأنَّ الوصفَ الواردَ في الرؤيا 20 رمزيّ،ٌ ويشيرُ إلى فترةِ حُكمِ المسيحِ بأكملِها بدءاً من صعودِهِ وتمجيدِه.

 

يتمسَّكُ أتباعُ كُلٍّ مِنْ وُجهاتِ النظرِ هذه بالدّفاعِ عنها. فوُجهةُ النّظرِ الأولى يعتنقُها التدبيريّون، وكان يعتنقُ الوجهةَ الثانيةَ بعضُ التطهُّريّين ويعتنقُها الآن أتباعُهُمُ المعاصرون، والثالثة يعتنقُها قسمٌ من تقليدِ الإصلاح في علم اللاهوت. عندما يختلف مُفسِّرو الكتاب المُقدِّس المتساوون في كفاءتهم، فالأفضل ألَّا تكون مُتزمِّتاً. من نافلةِ القول إنّ كاتبَ هذه السطور يعتقدُ أنَّ الألفيَّةَ واحدةٌ من الصورِ العديدةِ المستخدمةِ في الكتابِ المُقدَّس لوصفِ الحياة في السماء، وإنه من الخطأِ الإفراطُ في التَّفسيرِ الحرفيّ للرؤيا 1:20-6 على اعتبارِ أنه يشيرُ إلى الفترةِ الفاصلةِ بين المجيءِ الثاني والدينونة. يعتقد بعضُ الباحثين أنَّ قبولَنا إحدى وُجهاتِ النّظرِ هذه دونَ غيرها يُسبِّب الكثيرَ من الاختلاف في سلوكِنا ورجائنا المسيحيِّ حاليّاً. ولكنَّ قولَ هذا يعني بالتأكيد تجاهلَ حقيقةِ كونِ مجيءِ يسوع أساسَ ما تتوقّعُهُ وُجهاتُ النّظرِ جميعُها، وما دامَ مجيئُهُ في لبِّ رجائنا المسيحيّ، فالتفاصيلُ غيرُ مُهمَّةٍ نسبيَّاً.

 

وبالتالي، ما يهمُّ هو الاعترافُ بأنَّ المجيءَ الثاني هو مجيءُ يسوعَ ديَّاناً ومُخلِّصاً. يتحدَّثُ العهدُ الجديدُ أحياناً عن الله، وأحياناً عن المسيح باعتبارِهِ ديَّاناً (رومية 10:14-12؛ فيلبّي 10:2-11). يرجِعُ هذا إلى أنَّ اللهَ يدينُ من خلالِ المسيح الذي خصَّصَ له سلطانَ الدينونة (يوحنَّا 22:5؛ أعمال الرُسُل 30:17-31). سوف يدينُ المسيحُ في مجيئِهِ جميعَ الناسِ بحسبِ أعمالِهم وكلامِهم (متَّى 36:12-37؛ رومية 5:2-11؛ 2 كورنثوس 10:5). وحقيقةُ كونِ الدينونة على أساسِ ما فعلناه ليست بالطّبعِ إنكاراً لمبدأ التبرير بالإيمان، لأنّ دليلَ الإيمانِ هو الأعمالُ الصالحةُ التي تنبعُ منه (غلاطية 6:5)، والذين آمنوا بالمسيح هم وحدَهُمْ القادرون أنْ يُؤدِّوا أعمالاً مقبولةً عند الله (راجع العبرانيّين 14:9). سوف تشملُ الدينونةُ كُلَّ واحدٍ، المؤمنين وغير المؤمنين على حدٍّ سواء. أمّا المؤمنون فسيتلقّون مكافأة أو جزاءً وفقاً للطريقة التي استخدموا بها المواهبَ والفُرصَ الموكلةَ لهم (متَّى 14:25-30؛ 1 كورنثوس 12:3-15).

 

إنَّ مجيءَ المسيحِ ديَّاناً هو أيضاً وبأعلى درجاته مجيئُهُ مُخلِّصاً. سوف يتحرَّرُ شعبُهُ من الخطيَّةِ والفسادِ ليصبحَ مشابهاً له. لن يتعرَّضوا فيما بعد للغوايةِ، وسوف يكونون مُقدَّسين إلى التّمام (فيلبّي 21:3؛ 1 تسالونيكي 13:3؛ 1 يوحنَّا 2:3). سوف يجلسون على كراسيهم على مائدتِهِ ويملكون معه إلى الأبد (متَّى 11:8؛ لوقا 30:22؛ الرؤيا 5:22).

 

قيامة الأموات (كورنثوس الأولى 15)

 

يصاحبُ المجيءَ الثاني ليسوع قيامةُ المؤمنين الأموات للانضمام إليه (1 تسالونيكي 14:4-16). يستعرضُ الكتابُ المُقدَّس حالةَ الأمواتِ قبلَ القيامة بطُرقٍ مختلفة. يبدو في العهد القديم أنَّ المصيرَ الشائعَ لجميعِ الأموات هو الهاويةُ أو القبر. كان كُتَّابُ العهدِ القديم يفتقرون عموماً إلى الإعلانِ الأكملِ الذي أتى به المسيحُ على الرّغم من المعرفةِ المحدودةِ عن رجاءِ القيامة (دانيال 2:12) أو عن الانتقالِ إلى محضرِ الله (المزمور 24:73). إذا فهمنا مَثَلَ الغنيِّ ولعازر فهماً حرفيَّاً (وهو غير مُؤكَّدٍ)، سوفَ نستنتجُ أنه يوجدُ انفصالٌ حقَّاً بين المؤمنين وغير المؤمنين، وأنَّ المؤمنين في سلامٍ وغيرَ المؤمنين في عذابٍ. ولكنْ ينبغي علينا الحذرُ بشأنِ فهمِ تفاصيلِ هذا المَثَل أو أيّ مَثَلٍ آخر. يجب ألَّا نُطبِّق، على سبيلِ المثال، صورةَ الحاكمِ الذي يفتخرُ أمامَ الله بذبحِ أعدائه أمامَ عينيه (لوقا 27:19). يعطينا بولس صورةً أوضح، فهو يَعلَمُ أنه سوف يكون مع المسيح بعد موته (فيلبّي 23:1) ويتحدَّث عن الراقدين بيسوع (1 تسالونيكي 14:4). نال اللصُّ التائبُ وعداً بأنه سيذهب إلى الفردوس مع يسوع (لوقا 43:23)، ورأى الشهيدُ استفانوس يسوعَ واقفاً في السماء لملاقاته (أعمال الرُسُل 55:7-59). يشير هذا كُلّه إلى أنَّ الموتَ يقودُ المسيحيَّ إلى محضرِ المسيح. ومع ذلك، توجد مُؤشِّراتٌ على أنَّ هذه ليسَتْ حالةً نهائيَّة أو كاملة. فمصيرُ الأثمةِ غيرُ موصوفٍ على الإطلاق. علينا أنْ نرضى بتسليمِ الأمرِ كُلِّه في يدِ الله.

 

يحدثُ حَدَثانِ في المجيء الثاني للمسيح. فمن ناحيةٍ، أولئك الذين ماتوا كمؤمنين بالمسيح يقومون من بين الأموات، وينضمّون إلى موكبِ نصرته (1 تسالونيكي 14:4-17؛ 1 كورنثوس 23:15، 51-57). ومن ناحيةٍ أخرى، فإنّ المؤمنين الباقين على قيدِ الحياة في مجيئِهِ سوف يُحضَرون إلى محضرِهِ لملاقاته عند مجيئه (1 تسالونيكي 17:4). يتغيّرُ جميعُ الذين يتشاركون في هذا الحدث، سواءً من الأموات أو الأحياء، بقوَّةِ الله ويلبسون جسماً جديداً. وبما أنَّ الجسمَ البشريَّ من لحمٍ ودمٍ لا يمكنه أنْ يرثَ ملكوتَ الله وعدمَ الفساد، فإنّ المسيحيّين يلبسون جسماً "روحانيَّاً" جديداً (1 كورنثوس 44:15). ومثلما "تموتُ" البذرةُ وتتحوَّلُ إلى نباتٍ يرتبط بها ارتباطاً عُضويَّاً ولكنه يختلفُ تماماً في المظهر، فإنّ أجسامَنا الجسديَّةَ الحاليَّةَ سوف تتحوَّلُ إلى أجسامٍ روحانيَّةٍ جديدةٍ وكاملةٍ تلائمُ الحياةَ في السماء (فيلبّي 20:3-21). وما يعنيه هذا أبعدُ من فهمِنا، لأنَّ مفهومَ السماء بحدِّ ذاته لا يمكنُ تصوُّرُهُ، ولكنّنا ربَّما نستطيعَ أنْ نرى تشبيهاً من جسدِ يسوعَ المجيدِ الذي تجلَّى وقام (مرقس 2:9-3؛ لوقا 39:24). والمغزى هنا هو ألَّا يتطلَّعَ المسيحيّون إلى مُجرَّدِ بقاءِ النفسِ غير الماديَّة – مع ما يترتَّبُ على ذلك من عدمِ أهميّةِ الجسمِ الماديّ الحاليّ وحياتِهِ في النهاية. توجدُ استمراريَّةٌ حقيقيَّةٌ بين حياتِنا الجسديَّةِ الماديَّةِ الحاليَّة وحياتِنا الجسديَّةِ الرُّوحيَّةِ في المستقبل. فالخلاصُ يتعلَّقُ بالشخصِ كُلّه وليس بجزءٍ منه وحسب. وحياةُ السماءِ يجبُ أنْ تكونَ استمراراً للحياة في المسيحِ على الأرضِ على نطاقٍ أوسعَ وأمجد.

 

والذين ليسوا أعضاءً في شعب المسيح لا يشاركون بالطبعِ في التمجيدِ المُميِّزِ لقيامةِ المؤمنين. ومع ذلك، توجد قيامةٌ للأشرار حتَّى يظهروا أمامَ الله والمسيح في يوم الدينونة (متَّى 41:25-43؛ يوحنَّا 28:5-29؛ أعمال الرُسُل 15:24؛ الرؤيا 11:20-15). والحكمُ الذي سبقَ فصدرَ عليهم في هذه الحياة هو أكيدٌ (يوحنَّا 18:3-19).

 

والذين يُدانون بهذه الطريقةِ هم الذين رفضوا إنجيلَ يسوع المسيح، وبقوا في خطاياهم، فلا يليقُ بِهُمِ الدخولُ إلى محضرِ اللهِ ومحضرِ المسيحِ في السماء، ولذلك فهم مُستثنَون من محضرِ الله (2 تسالونيكي 9:1). يوصَفُ هذا المصيرُ بالعقابِ الأبديّ (2 تسالونيكي 9:1) أو ببحيرة النار حيثُ العقابُ الأبديّ (الرؤيا 10:20، 15). تختلفُ الآراءُ حولَ ما إذا كان هذا يعني عذاباً واعياً أبديَّاً أو فناءً. تتعلَّقُ هذه المسألةُ أيضاً بمدى التفسيرِ الحرفيِّ للتصويرِ الكتابيِّ في وصفِ الحياةِ الآتية. يُؤكِّد الذين يقبلونَ فكرةَ الفناءِ إنها لا تُقلِّلُ بأيِّ حالٍ من شدَّةِ الدينونةِ الإلهيَّةِ على الأشرار، باعتبار أنَّ الفناءَ مصيرٌ مُرعبٌ في حدِّ ذاته. كما أنَّ وُجهة النَّظرِ هذه لا تنكرُ أنَّ الأشرار سوف يمثُلون أمامَ اللهِ، وسوف تُوقَعُ عليهم دينونتُهُ. لا يوجد ما يشيرُ إلى حدوثِ الفناءِ في وقتِ الموتِ الجسديّ.

 

تُثارُ مشكلةٌ مُعيَّنةٌ بخصوصِ مصيرِ الذين لم يسمعوا بالإنجيل مُطلقاً ولم تُتَحْ لهُمْ فرصةٌ للاستجابةِ له بحُريَّةٍ. لا يُقدِّمُ العهدُ الجديدُ الكثيرَ حولَ هذه المسألة، فهو يهتمُّ بالأكثرِ بأنْ يضعَ أمامَ الكنيسةِ مسؤوليَّتَها الساميةَ بالكرازةِ بالإنجيلِ لجميعِ الناسِ حتَّى تتسنَّى للجميعِ فرصةُ نيلِ بركاتِ الخلاص في هذه الحياة وفي العالم الآتي. ومع ذلك، توجدُ تلميحاتٌ إلى أنَّ الأممَ سوف يُدانون وفقاً لطريقةِ استجابتِهِمْ للنور الذي رأوه. توجد بعضُ الأسسِ للاعتقادِ بأنَّ الذين تكشفُ طريقةُ حياتِهم أنهم كانوا سيقبلون المسيح لو أتيحَتْ لهم الفرصة، لذلك سوف يخلصون في اليوم الأخير، لأنَّ ذبيحة المسيح نافعةٌ لهم أيضاً (متَّى 31:25-33؛ رومية 12:2-16). يمكننا أنْ نستودعَهم واثقين لرحمةِ اللهِ العظيمةِ وعدلِهِ المطلق فهو يريدُ أنَّ جميعَ الناسِ يخلصون وإلى معرفةِ الحقّ يُقبلون (1 تيموثاوس 4:2).

 

يختلفُ التأكيدُ على هذا عن القول بأنَّ جميعَ الناسِ سوف يخلصون في النهاية. يعتقد البعض أنَّه لن يذهبَ أحدٌ في الواقع إلى الجحيم في النهاية معَ أنَّ الكتابَ المُقدَّس يحتوي على العديدِ من التحذيراتِ حولَ إمكانيَّةِ طرحِ الأشرار في الجحيم: فرحمةُ اللهِ مفادُها أنه لن يُرسلَ أيَّ شخصٍ إلى الجحيم، ومَحبَّتُهُ قويّةٌ إلى درجةِ أنَّ جميعَ الناس لا بدَّ أنْ يستجيبوا لها في النهاية، حتَّى لو لم تأتِ تلك الاستجابةُ إلَّا بعد قدرٍ ما من المعاناة في المطهر. غالباً ما يُستَشهَد بحقيقة أنَّ المسيح قد كرز للأرواح التي في السجن (1 بطرس 19:3-20؛ راجع 6:4) لدعم وُجهةِ النَّظرِ هذه على الرغم من أنَّ المقطعَ لا يدلّ على ذلك بل يتحدَّث بالأحرى عن إعلانِ نصرةِ المسيحِ على جميعِ القُوى المُصطَّفةِ ضِدَّهُ.

 

ينبغي قول شيئين حول وُجهةِ النَّظرِ هذه. أوَّلاً، لا يشيرُ العهدُ الجديدُ إلى أيِّ نوعٍ من المعاناةِ في المطهر بعدَ إتمامِ وصولِ المرء إلى السماء: فمثلُ هذا الاقتراحِ يوحي بأنَّ الخلاصَ يعتمدُ على قَبولِ الإنسان لله بدلاً من عملِ المسيحِ المكتمل. يعتمد مصيرُ الشخصِ في الحياةِ الآتية على استجابتِهِ للمسيحِ في الحياة الحاضرة (لوقا 8:12-9؛ 2 كورنثوس 1:6-2). ثانياً، ينبغي أنْ نُميِّزَ بين عطيّةِ رحمةِ الله للعالم بأسره وقبولِ العالم بأسْرِهِ لتلك العطيَّة. يُعلِّمُ العهدُ الجديدُ بوضوحٍ عن توفُّرِ النعمةِ الإلهيَّة للعالمِ بأسْرِهِ (يوحنَّا 16:3). ولكن لا يوجدُ تعليمٌ بقبولِ العالمِ بأسْرِهِ للنعمة. أفادَ يسوعُ بوضوحٍ أنه لنْ يتمكَّنَ الجميعُ من الدخولِ إلى ملكوت الله (لوقا 23:13-24). وبالتالي لا يمكن أنْ يفترضَ أحدٌ أنْ تُخلِّصَهُ رحمةُ الله مع أنه يعيشُ حياةَ الخطيَّةِ وعدمِ التوبة، ولا يمكن للكنيسة أنْ تتهرَّبَ من مسؤوليَّتِها التبشيريّةِ زاعمةً أنَّ اللهَ سوف يُخلِّصُ الجميعَ في النهاية على أيَّةِ حالٍ. فعقيدةُ الخلاصِ الكونيِّ تُضعِفُ مسؤوليَّةَ المؤمنين الأخلاقيَّةَ والرُّوحيَّةَ لا محالة، وتُقلِّلُ من الحماسةِ التبشيريّةِ والإرساليَّةِ للكنيسة. كما أنَّ الكتابَ المُقدَّسَ لا يدعمُها، فالشعورُ الخادعُ بالشفقة ينبغي ألّا يُعمينا عن التعليمِ الكتابيّ بِعَظَمِ المسؤوليَّةِ في قبولِ الإنجيلِ في هذه الحياة.

 

الحياة في السماء (الرؤيا 1:21-5:22)

 

تصاحبُ يومَ الدينونة نهايةُ النظامِ العالميِّ الحاليّ، الذي هو في هذه الحالةِ من الفسادِ بسببِ الخطيَّة والشرّ (رومية 19:8-23). ينتهي العصرُ القديمُ تماماً، ويحلُّ محلَّه عصرٌ جديد. تظهرُ سماءٌ جديدةٌ وأرضٌ جديدةٌ، وتدومان إلى الأبدِ نظراً لبرِّهما (2 بطرس 13:3). يوصَفُ المسكنُ الجديدُ للبشرِ المفديّين بأنه أورشليمُ الجديدة، لأنها المدينةُ المُقدَّسةُ التي تشيرُ إليها أورشليمُ الدنيويَّةُ الخاطئة. تزولُ الخطيَّةُ والحزن، ويكون النعيمُ الأبديُّ نصيبَ شعبِ الله. ينتهي القديمُ وتصبحُ جميعُ الأشياءِ جديدةً.

 

من الممكنِ تركيزُ الاهتمامِ على الصورِ المُتنوِّعةِ المُستخدَمةِ لوصفِ حياةِ المؤمنين في المستقبل – أي الوليمةُ العظيمة، والمدينةُ السماويَّة، ونهرُ الحياة بأشجارِهِ المثمرة – مع عدم الاهتمام بالحقيقةِ التي تشير جميعها إليها وهي أنَّ حياةَ السماءِ حياةٌ سماويَّة لأنها حياةٌ مع الله ويسوع. والشركة بيننا وبين خالقنا، والتي انقطعَتْ بسبب الخطيَّة، استُعيدَتِ الآن بالتمام. لم يعدْ وجودُ الله بين شعبِه محصوراً في هيكلِهِ كما في تصويرِ العهدِ القديم (انظر أيضاً إشعياء 15:57)، أو في حضورِهِ غيرِ المنظور بين المؤمنين (متَّى 20:18). فاللهُ ظاهرٌ في وسطهم، ويمكنهُمْ رؤيةُ وجهِه. وكُلٌّ من الآب والابن نورُ أورشليم الجديدة، وروحُ الله يدعونا لدخولِ المدينة (الرؤيا 17:22). وهكذا، يدخلُ المفديّون أخيراً، رجالاً ونساءً، إلى شركةِ المَحبَّة التي تربطُ الآبَ والابنَ والرُّوحَ القُدُسَ معاً، وتصبحُ مَحبَّةُ اللهِ المُقدَّسةُ حقيقةً نهائيَّةً وكاملةً ومنتصرة (1 كورنثوس 13:13). الله هو الكُلُّ في الكُلّ (1 كورنثوس 28:15).

 

أسئلةٌ للدراسة والمناقشة

 

  1. يبدأ مارشال بوضعِ مناقشتِهِ عن الأُخرويَّاتِ بتأكيدٍ في الماضي وفي حاضرنا. لقد بدأتِ الأيَّامُ الأخيرة، وسوفَ تبلغُ مرحلةَ إتمامِها بالتأكيد. كيف يُؤثِّرُ ذلك على طريقةِ تفكيرِكَ في هذا الموضوع؟

  2. إذا كانتْ تفاصيلُ عودةِ يسوع غيرَ واضحةٍ بالمرَّة، فلماذا تعتقد أنَّ الكثيرَ من الناس يتجادلون حولها كثيراً؟

  3. ما معنى وَجهاتِ النَّظرِ الثلاثِ المختلفةِ عن الألفيَّة؟

أ. ما قبلَ الألفيَّة

ب. ما بعدَ الألفيَّة

ج. اللا-ألفيَّة

  1. ناقشْ ما إذا كانتِ الأشكالُ المختلفةُ للألفيَّة تُمثِّلُ أيَّ اختلافٍ في حياةِ المسيحيّ حالياً بالنسبة للذين يعتنقونها.

  2. ما رأيك في مذهبِ الفناء (كما عبَّر عنه مارشال)؟

  3. "في كونٍ من المَحبَّة لا يمكن أنْ توجدَ سماءٌ تتساهلُ مع مقدارٍ هائلٍ من الأهوال، ولا جحيمٌ لأيِّ شيءٍ لا يجعله في الوقت نفسه جحيماً بالنسبة لله" (ج.ا.ت روبنسون): كيف تردُّ على هذا النقدِ لعقيدةِ العهدِ الجديدِ بخصوصِ مصيرِ الأشرار النهائيّ؟

  4. "توجد تلميحاتٌ إلى أنَّ الأممَ سوف يُدانون وفقاً لطريقة استجابتِهم للنور الذي رأوه. توجد بعضُ الأسسِ للاعتقاد بأنَّ الذين تكشفُ طريقةُ حياتِهِمْ أنهم كانوا سيقبلون المسيح لو أتيحَتْ لهم الفرصة، لذلك سوف يخلصون في اليوم الأخير، لأنَّ ذبيحةَ المسيح نافعةٌ لهم أيضاً." ما رأيك في هذا؟

  5. لو لم تكنِ السماءُ قد صُورِّتْ تصويراً صحيحاً بشكلِ شخصيَّاتٍ ترتدي ثيابَ النوم، وتجلسُ على الغيوم، وتعزفُ على القيثارات، ما هو نوعُ الصور التي يمكنُنا استخدامُها للتعبيرِ عن طبيعتِها الحقيقيَّة؟