Loading...

دليل المعتقدات المسيحيَّة - Lesson 6

حياة المؤمن المسيحيّ

المرحلة التالية في دراسة العقيدة المسيحيَّة تراعي النظر في الحياة الجديدة التي يهبها الله لمن يقبلون يسوع مُخلِّصاً لهم من الخطيَّة. سوف نبدأ بالنظر إلى كلمتين عامَّتين تُستخدَمان لوصف اختبارنا كمسيحيّين، ثم نناقش أربعة جوانب مختلفة للحياة المسيحيَّة، وسوف ننظر أخيراً في طبيعة استجابتنا لهبة الله المُتمثِّلة في الخلاص والحياة الأبديَّة.

I. Howard Marshall
دليل المعتقدات المسيحيَّة
Lesson 6
Watching Now
حياة المؤمن المسيحيّ

Lessons
Transcript
  • ما دام الله قد أوحى بالفعل بالكتاب المُقدَّس، ربَّما يسأل أحدهم عن سبب دراسة العقيدة المسيحيَّة قائلاً: هل يكفي بالتأكيد أن يدرس المرء الكتاب المُقدَّس دون الانشغال بمسألة العقيدة؟ ربَّما تكون أبسط إجابةٍ عن هذا السؤال هي أن أيّ شخصٍ يدرس الكتاب المُقدَّس إنَّما يدرس العقيدة في الواقع. المناقشة المنهجيَّة للاهوت المسيحيّ سوف تنقل الطالب إلى العديد من مصادر المعرفة ومجالات التفكير. وسوف يكون هدفنا هنا هو الهدف الأكثر تواضعاً المُتمثِّل في محاولة وضع التعليم الكتابيّ الذي يُشكِّل أساس اللاهوت المسيحيّ.

  • تخبرنا العقيدة المسيحيَّة بما يؤمن به المسيحيّون عن الله. ولكن قبل أن نتمكَّن من مناقشة ما نؤمن به عن الله، ينبغي أن نعالج السؤال الأوَّليّ حول كيفيَّة التعرُّف على الله وعلى وجوده وطبيعته وأفعاله. فهذا السؤال له أهميَّةٌ حاسمة لأن الاختلافات بين المواقف اللاهوتيَّة المُتنوِّعة التي يعتنقها المسيحيّون غالباً ما تعتمد على اختلافاتٍ في طريقة التفكير بخصوص كيفيَّة معرفة الله.

  • على الرغم من أننا لا نستطيع معرفة الله بالبحث، فإن الله كشف لنا نفسه بطُرقٍ يمكننا فهمها. بما أننا مخلوقاتٌ مصنوعة على صورة الله (التكوين 26:1)، من الممكن أن يكون لنا بعض الفهم عن الله الذي صنعنا. كشف الله عن نفسه بلغة البشر، وبما أننا ندرك أن لغة البشر وسيلةٌ صادقة لكنها غير كافيةٍ لتوصيل حقيقة الله، يمكننا إحراز بعض التقدُّم في الفهم. لاءم الله نفسه بلطفه لعقولنا الضعيفة والخاطئة من خلال التكلُّم إلينا في إعلانٍ شخصيّ، ولذلك ينبغي أن نتذكَّر أن الشخص نفسه أعظم من الإعلان. علينا أن نتذكَّر أنه أبعد من نطاق فهمنا وأن الكلمات البشريَّة لا يمكنها التعبير عنه كما يحقّ وأنه لا يزال بإمكاننا أن نقول المزيد عنه.

  • القصَّة التي تدور في الكتاب المُقدَّس من سفر التكوين إلى سفر الرؤيا هي قصَّة كيفيَّة خلق الله العالم وسقوط العالم في الخطيَّة وتمرُّده عليه وكيفيَّة بدء الله عمليَّة خلقٍ جديد سوف يستمرّ لحين انتهاء كُلّ أثرٍ للخطيَّة. البشر ذروة خليقة الله وتاجها لأنهم صورة الله على عكس المخلوقات الأخرى (التكوين 26:1-27). وسريعاً ما تبع خلق البشر دخول الشرّ في قلوبهم. فقد خُلِقوا بإمكانيَّة الاختيار بين الصواب والخطأ وبين طاعة الله وعصيانه. لكنهم اتَّخذوا القرار الخاطئ بتحريضٍ من المُجرِّب فدخلت الخطيَّة العالم بجميع عواقبها الرهيبة.

  • الموضوع الرئيسيّ للاهوت المسيحيّ الذي يضفي عليه طابعه المسيحيّ هو مجيء يسوع إلى العالم مُخلِّصاً إيَّاه من الخطيَّة. ومجيئه على حدٍّ سواء إعلانٌ عن طبيعة الله المُقدَّسة المُحبَّة كما أنه فعل المَحبَّة السامية الذي يصالح به الله الخطاة لنفسه.

  • المرحلة التالية في دراسة العقيدة المسيحيَّة تراعي النظر في الحياة الجديدة التي يهبها الله لمن يقبلون يسوع مُخلِّصاً لهم من الخطيَّة. سوف نبدأ بالنظر إلى كلمتين عامَّتين تُستخدَمان لوصف اختبارنا كمسيحيّين، ثم نناقش أربعة جوانب مختلفة للحياة المسيحيَّة، وسوف ننظر أخيراً في طبيعة استجابتنا لهبة الله المُتمثِّلة في الخلاص والحياة الأبديَّة.

  • لا يمكن للمرء أن يصبح مسيحيَّاً بمُجرَّد الإيمان بيسوع المسيح دون أن يصبح في الوقت نفسه عضواً في شعب الله مع جميع إخوته المؤمنين وأن يشارك في حياة الكنيسة. في الواقع، لم يكن من الممكن أن نعرف يسوع دون شهادة المسيحيّين الآخرين وعملهم في ترجمة الكتاب المُقدَّس وتوزيعه وصلواتهم من أجلنا. لم يأتِ يسوع لخلاص الناس بمعزلٍ عن بعضهم البعض بل لتأسيس مجتمعٍ جديد من الناس يعملون على بنيان بعضهم البعض في الإيمان وكرازة العالم. ينبغي علينا الآن استكشاف معنى الكنيسة ومهامها.

  • يهتمّ علم الأخرويَّات بالتدخُّل الأخير لله في التاريخ لإنهاء العالم الحاضر الشرِّير ولبدء العالم الجديد. لكن فعل الله هذا لا يقتصر على المستقبل لأن الله بدأ خليقته الجديدة في مجيء يسوع وتأسيس الكنيسة. جرت العادة على فهم النبوَّات المُتعلِّقة بالأيَّام الأخيرة على أنها كانت تتحقَّق في الأيَّام الأولى للكنيسة. ولذلك، لكي نفهم ما سوف يحدث في المستقبل نحتاج إلى تلخيص قدرٍ من القصَّة الكتابيَّة حتَّى نضع المستقبل بعين الاعتبار.

6

 

حياة المسيحيّ

 

نظرْنا الآن في ما قصدَهُ اللهُ في الأصلِ للعالم، وفي الطريقةِ التي سقطَ بها البشرُ في الخطيَّةِ والتمرُّدِ على خُطَّة الله. ورأينا كيف جاء يسوعُ المسيح ليكونَ مُخلِّصَ البشر. المرحلةُ التاليةُ في دراسةِ العقيدة المسيحيَّة هي النظرُ في الحياةِ الجديدةِ التي يمنحُها الله للذين يقبلون يسوعَ مُخلِّصاً لهم من الخطيَّة. سوف نبدأ بالنظر في مصطلحين عامَّيْن يُستَخدَمان لوصفِ اختبارِنا كمسيحيّين، ثم نناقشُ أربعةَ جوانبَ مختلفةٍ للحياةِ المسيحيَّة، وأخيراً سوف ننظر في طبيعةِ استجابتِنا لهبةِ الله بالخلاصِ والحياةِ الأبديَّة.

 

الخلاص (1 بطرس 3:1-12)

 

الخلاص هو المصطلحُ الأوَّل من المصطلَحَيْن العامَّين المُستَخدمان في الكتاب المُقدَّس عن الهبة العظيمة التي يتلقَّاها الناس نتيجةً لعمل المسيح (رومية 16:1). من الحقائق اللافتة للانتباه أنَّ الفعلَ المقابلَ "يَخلُص" يُستخدَم في الأزمنة الثلاثة كُلّها. فالمسيحيّون أشخاصٌ خَلُصوا، والوقت الذي يؤمنون فيه بيسوع يُمثِّل بدايةَ اختبارِهم الخلاص (أفسس 5:2، 8). وهم أشخاصٌ يَخلُصون يوميَّاً لأنهم يختبرون المزيدَ والمزيد من مَحبَّةِ المسيح وقوَّةِ الرُّوح باستمرارٍ، ويزدادون في الإيمان والمعرفة (2 كورنثوس 15:2؛ راجع أفسس 14:3-16). لكنّ خلاصَهم لم يُقدَّمْ لهم بالكامل بعد، والكتابُ المُقدَّس يتحدَّثُ عنه أيضاً كهبةٍ مستقبليَّة: سوف يَخلُصون يومَ نصرةِ الله الأخيرة (2 تيموثاوس 18:4)، وهكذا فإنّ حياتَهم الحاليّةَ هي حياةُ رجاءٍ في ذلك الخلاصِ الكاملِ المستقبليّ (رومية 24:8). نجد أنَّ هذه الأزمنةَ الثلاثةَ للخلاص تُدرَجُ جنباً إلى جنبٍ في 1 بطرس 3:1-5. وهي تشيرُ إلى حقيقةِ كونِ المسيحيّين يؤمنون بذاك الذي يقدر أنْ يُخلِّصَ "الآن وفي كلِّ حينٍ" (العبرانيين 25:7) أولئك الذين يتقدّمون به إلى الله، فاسمه "يسوع" يُصوِّرُ شخصيَّتَه على أنه "المُخلِّص".

 

لا يُنظَرُ إلى كمال هبة الله وكفايتها في حقيقة كونها تشملُ الماضيَ والحاضرَ والمستقبل فقط، ولكن أيضاً في حقيقةِ كونها سلبيَّةً وإيجابيَّةً في آثارها. فهي، من الناحية السلبيَّة، خلاصٌ من الخطيَّة وغضبِ الله (1 تيموثاوس 15:1؛ رومية 9:5)، و"الخلاص" يعني في الواقع "إنقاذَ" الناس أو "خلاصَهم" من مصيرٍ بغيض. ومن الناحية الإيجابيَّة، ينقلُنا الخلاصُ إلى معرفةِ الله (1 تيموثاوس 4:2).

 

الخلاصُ هو، من البداية إلى النهاية، عطيَّةُ اللهِ لنا في يسوع المسيح (أعمال الرُسُل 11:15). اختارَ اللهُ إعدادَ شعبٍ مُخلَّصٍ لنفسه (أفسس 3:1-6). وعَمِلَ بروحِهِ ليوصلَ إلينا الخبرَ السارّ عن الخلاص، ويوقظَ في قلوبِنا إمكانيَّةَ الإيمان (1 تسالونيكي 4:1-6). والله هو الذي يستمرُّ في حفظِنا بقوَّته، ومن سيجعلُنا في النهاية نتمتّعُ بخلاصه تمتّعاً كاملاً (1 بطرس 5:1؛ تتلخَّصُ العمليَّةُ بكاملها في رومية 29:8-30).

 

الحياة الأبديَّة (يوحنَّا 27:6-71)

 

ينقل مصطلحُ "الخلاص" فكرةَ الإنقاذِ من الخطر، واستعادةَ السلام والرفاهية. ويشيرُ مصطلحُ "الحياة الأبديَّة" إلى قيامة الأموات. يمكن اعتبارُ الخطاة أمواتاً عن الحياةِ الروحيَّة لله بينما هُمْ في هذا العالم، وماثلين تحتَ دينونةِ الموت الأبديّ في العالم الآتي (رومية 23:6؛ أفسس 1:2-5). وقد قدّمَ لهم مجيءُ يسوع إمكانيَّةَ الحياةِ الحقيقيَّة (2 تيموثاوس 10:1). وهذا يعني أنَّ الموتَ الجسديّ بالنسبة للمسيحيّ ليس إنهاءَ الحياةِ الحقيقيَّة، بل هو البابُ إلى الحياةِ الأبديَّة في محضرِ الله والمسيح (يوحنَّا 29:5؛ 23:11). وهذه الحياةُ "أبديَّةٌ" ليس فقط بمعنى دوامِها للأبد ولكنْ أيضاً، وقبلَ كُلّ شيءٍ، بمعنى أنها حياةُ اللهِ الأبديّ التي يتشاركُ بها مع مخلوقاته (يوحنَّا 25:5-26؛ 2 كورنثوس 10:4-11).

 

يمكن تعريفُ الحياةِ الأبديَّة في الحقيقة بأنها اختبارُ معرفةِ الله (يوحنَّا 3:17) – وهو اختبارٌ لا يعرفه الخاطئ (أفسس 17:4-18). وغالباً ما يُظَنٌّ أنَّ الحياةَ الأبديَّة تعني ببساطةٍ الحياةَ المستقبليَّة في السماء بعد الموت، إلَّا أنها مُلكيَّةٌ حاليّةٌ لكُلّ مؤمنٍ مسيحيّ،ٍ هنا والآن، في هذا العالم (يوحنَّا 24:5؛ 47:6). فحياتُنا الحاليةُ كمسيحيّين هي تذوّقٌ لحياةِ السماء. يمكننا أنْ نعرفَ الله ونختبرَ مَحبَّته هنا والآن (يوحنَّا 25:11-26؛ ١ تيموثاوس 8:4؛ ١ يوحنَّا 14:3؛ 11:5). وعلى الرغم من أنَّ أجسادنا الخارجيَّة تفنى، فإنّ "إنساننا الداخليّ" يمتلكُ حياةً مُتجدِّدةً من الله (2 كورنثوس 16:4)، وفي النهاية سوف نمتلكُ علانيةً تلك الحياة التي نملكُها الآن في الخفاء (كولوسي 3:3-4). وبالتالي، فإنّ اختبارَنا الحاليَّ للحياة الأبديَّة غيرُ مكتملٍ و"مخفيٌّ"؛ فهو يعتمد على إعالتِنا المُستمرَّة بخبزِ الحياة (يوحنَّا 35:6، 54). ويوماً ما سوف يُزهِر اختبارُنا عندما نختبرُ حضورَ الله على نحوٍ كامل.

 

سلامٌ مع الله (أفسس 11:2-18)

 

في محاولةِ تعريفِ طبيعةِ الخلاصِ والحياةِ الأبديَّة التي نتمتَّع بهما كمسيحيّين تعريفاً أدقّ، سوف نستفيد من أربعةِ مفاهيمَ أساسيَّة. المفهوم الأوَّل هو السلام، وسوف نشرحُهُ عن طريقِ ثلاثِ كلماتٍ مُهمَّة أخرى.

 

يستخدمُ بولس كلمةَ التبرير كمصطلحٍ تقنيّ لعملِ اللهِ المُنْعِمِ بالغفرانِ للخطاة، وإعادتِهم إلى علاقةٍ صحيحة معه. هذه كلمةٌ مُستمدَّةٌ من المصطلحاتِ القانونيَّة. تَضعُ هذه الكلمةُ أمام أعيننا صورةَ قاضٍ يُعلنُ أنَّ الرجلَ الماثلَ في قفصِ الاتّهام بريءٌ من التُهَمِ المُوجَّهةِ ضدّه. تَرِدُ تحذيراتٌ صارمةٌ في العهد القديم للقضاة بأنه لا يجوزُ لهم تبريرُ الأشرارِ المذنبين أي تبرئَتُهم (الأمثال 15:17). ومع ذلك، نجد في العهد الجديد أنَّ اللهَ نفسَهُ يُبرِّئُ الخطاةَ الفاسدين (رومية 8:5-9). كيف يمكنُ أنْ يكونَ هذا؟

 

قد يكون السببُ هو أنَّ اللهَ في نعمتِهِ ومَحبَّتِهِ بذلَ ابنَهُ ليكونَ ذبيحةً عن خطايانا (رومية 24:3-25). جاء المسيحُ إلى هذا العالم وعاشَ حياةَ طاعةٍ كاملةٍ لله. اختلطَ بالخطاِة وبخطيّتهم، وخضعَ لمطالبِ ناموسِ الله العادل، وحَمَلَ لعنة الخطيَّة بالنيابة عنهم وفي مكانهم (2 كورنثوس 21:5؛ غلاطية 13:3). ويمكن لله تبرئةُ الذين يَتَّحِدون بيسوع لأنّه حملَ دينونَتَنا، وقدَّمَ حياةً بارَّة صالحةً إلى الله. وينظر الله إليهم على أنهم أبرارٌ، لا لأيّ شيءٍ فعلوه ليستحقّوا ذلك، ولكن ببساطةٍ لأنهم يؤمنون بأنَّ المسيحَ وحدَهُ هو برُّهم (رومية 20:4-25؛ 1 كورنثوس 30:1). فالذين يعترفون بإثمهم أمامَ الله ويؤمنون بالمسيح لا يُعاقَبون فيما بعد على خطيَّتهم بل يبرّئُهم الله أو يبرّرُهم مجَّاناً من أجلِ المسيح.

 

بفضلِ ما فعلهُ المسيح، لم يَعُدِ الخطاةُ بحاجةٍ لمحاولةِ عملِ أعمالٍ صالحةٍ كوسيلةٍ لإرضاءِ الله ونيلِ الخلاص (رومية 5:4؛ أفسس 8:2-10). في الواقع، أيَّةُ محاولةٍ كهذه مقابلَ ما عمله الله للخطاة هي محاولةٌ غيرُ مقبولة؛ وإذا شعرنا أننا بحاجةٍ لعمل شيءٍ آخر للتصالحِ مع الله فهذا إهانةٌ لمَحبَّةِ الله ولكمالِ ذبيحةِ المسيح. ومع ذلك، يُعبِّرُ الإيمانُ الحقيقيُّ بالله عن نفسه في الأعمال الصالحة حتماً؛ يوجد اختلافٌ شاسعٌ بين محاولةِ كسبِ فضلِ الله بترسيخِ صلاحِنا، وبين إظهارِ امتنانِنا له لما فعلَهُ لنا من خلال التعبيرِ عن إيمانِنا ومَحبَّتنا بطريقةٍ عمليَّة. الأعمالُ الصالحةُ هي ثمرةُ البرِّ الضروريّةُ لكنّها ليسَتْ سببَه. 

 

التبريرُ كلمةٌ قانونيَّة ينحصرُ استخدامُها في بولس تقريباً. أمَّا كلمةُ الغفران فهي كلمةٌ أخرى ربَّما تكون أسهلَ في الفهم، وتنقلُ المعنى نفسَه في الأساس. تأخذنا هذه الكلمة إلى عالمِ العلاقات الشخصيَّة (رومية 7:4؛ لوقا 36:7-50). وتُستخدَمُ لوصفِ آثارِ موتِ يسوع على الصليب (متَّى 28:26؛ أفسس 7:1)، وقد أعلنَ يسوعُ نفسُه غفرانَ الله للخطاة (لوقا 48:7). فالطريقُ إلى الغفران هو من خلال الإيمانِ به (أعمال الرُسُل 43:10).

 

يحدث الغفرانُ عندما يوافقُ شخصٌ أسأنا بحقّه أو آذيناه على نسيانِ ما فعلناه وعدمِ حسبانِهِ ضدَّنا. قد يكون مثلُ هذا العملِ مُكلِّفاً جدَّاً بالنسبة للشخص الذي يغفر. قد يرجع هذا في الحالة البشريَّة إلى الخسارة الحقيقيَّة التي عانى منها المرءُ مثل أنْ يكون شخصٌ ما قتلَ أحدَ أفرادِ عائلته. ولكن قد يصعبُ على الناسِ أيضاً أنْ يتغاضوا عن كبريائهم ويغفروا حتى الإهانةَ الصغيرة. أمّا الله فبالتأكيد ليست لديه كبرياء زائفة يجب التغلُّب عليها، ومع ذلك، تكلَّف الله كثيراً كي يغفر لأنّ الخطيَّة البشريَّة أدّت إلى تشويهِ الخليقةِ التي صنعَها اللهُ في صورةٍ حسنةٍ وجميلة. يغفر الله بأخذِ الأذى الذي صنعَهُ البشر، ويحتملُهُ بمَحبَّتِهِ، وهذا ما نراه يحدثُ في الصليبِ عندما عانى ابنُ الله من رفضِ الناس وقسوتِهم بطولِ أناةٍ دون انتقامٍ.

 

في الوقت نفسه، يوجد جانبٌ آخر للغفران. لا يمكن للجاني نيلُ الغفران إلَّا عندما يتوب ويندم على ما فعلَهُ، وهذا شيءٌ نادراً ما يستطيع الناس فعلَهُ. بَيْدَ أننا في يسوعَ المسيحِ نرى المُمثِّلَ الكاملَ عن البشر يُقدِّمُ نفسَه إلى الله بالنيابةِ عنَّا، ويفعلُ لنا ما لم نستطعْ أنْ نفعلَه لأنفسنا. وعندما نتَّحدُ به يصبحُ غفرانُ الله حقيقةً لنا.

 

التبريرُ عملٌ من أعمالِ الله باعتباره الديَّانَ صاحبَ السيادة. ومع ذلك، يمكنُ للبشر تقديمُ الغفران. فالذين ينالون غفراناً إلهيَّاً مجَّاناً دون استحقاقٍ ينبغي أنْ يكونوا مُستعدّين للغفران للآخرين (متَّى 14:6-15؛ أفسس 32:4). في الواقع، إذا لم يكونوا مُستعدِّين ليغفروا للآخرين، فلن يغفرَ اللهُ خطاياهم. وفي حين أنه غالباً ما يُنظَر إلى التبرير كعملٍ واحد من أعمال الله (توقُّع حُكمه في يوم الدينونة)، فإنّ الغفرانَ شيءٌ نحتاجُ للصلاة من أجله يوميَّاً (متَّى 12:6؛ 1 يوحنَّا 9:1)، فعلى الرغم من أننا مُبرَّرون إلَّا أننا لا نزال عُرضةً للخطيَّة، ونحتاجُ إلى طلبِ الغفران من الله.

 

التبريرُ والغفرانُ مصطلحانِ يصفانِ العمليَّةَ المُؤديَّةَ إلى السلام بين الله والبشر. والمصطلحُ الثالث لهذه العمليَّة هو المصالحة. تفترضُ هذه الكلمةُ وجودَ حالةِ عداءٍ بين شخصين بحيث يكون أحدهما على علاقةٍ ليست وديّةً مع الآخر. إذا كان لي عدوٌّ، فقد أحتاج إلى أخذِ زمامِ المبادرةِ بمحاولة المصالحة معه. لا شكّ أنه من الواضح في العهد الجديد أنّ الله ليس هدفاً للمصالحة من جانب الناس. فهُمْ لا يحتاجون إلى فعل أيّ شيءٍ يجعله صديقاً لهم، وفي ضوء ما قد تعلَّمناه بالفعل عن التبرير والغفران، يجب ألَّا يفاجئَنا هذا. الله نفسُه بالأحرى هو الذي يصالح الخطاةَ المُتمرِّدين لنفسه، ومرَّةً ​​أخرى فإن الوسيلةَ المُستخدَمة هي موتُ يسوع. فبموت يسوع، الذي حمل خطايانا، يكشفُ اللهُ أنه لا يَحسِبُ خطايانا ضدَّنا، وأنه لا توجدُ عداوةٌ من جانبه. فاللهُ يدعونا لقبولِ المصالحةِ كعملٍ سبقَ أنْ اكتملَ من ناحيته (2 كورنثوس 18:5-20؛ رومية 10:5-11). للتعبير عن هذه النقطةِ بطريقةٍ أخرى، يمكن اعتبارُ يسوعَ الوسيطَ بين الله والبشر، الذي يحقّقُ المصالحةَ بين الطرفين اللذين تفصلُ بينهما خطيَّةُ البشر (1 تيموثاوس 5:2-6). ومع ذلك، مثلما هو الحال في صورة يسوع الذي يتوسَّط لنا عند الله، فالله يشاركُ المسيحَ أيضاً في رغبته هذا لمصالحتِنا، ولا يوجد ما يشير إلى خلاف ذلك. 

 

المصالحة تعني استعادةَ السلام، فالذين تبرَّروا بالإيمان ينعمون بالسلام مع الله (رومية 1:5). ولا داعي لخوفهم بعد الآن من غضب الله، بل يمكنهم الآن الاقتراب إليه واثقين. السلام ليس مُجرَّد مفهومٍ سلبيّ وغياب العداوة والحرب؛ ولكنه يشير من الناحية الإيجابيَّة إلى حالة السلام التي تصبح ممكنةً عندما تتوقَّفُ العداوة.

 

صحيحٌ أنَّ الذين استُعيدوا إلى علاقةٍ صحيحة مع الله قد يستمرّون في ارتكابِ الخطيّةِ ضدّه، ويحتاجون إلى الغفران والتطهير. فَهُمْ مُبرَّرون وفي الوقت نفسه ما زالوا خطاةً، ولكن لأنهم يؤمنون بالمسيح ليس عليهم أنْ يخافوا من دينونةِ الله على الرغم من أنَّ هذا ليس بأيّ حالٍ من الأحوال ترخيصاً لفِعلِ الخطيَّة. فالشخص الذي يستمرُّ في الخطيَّة عمداً يُظهرُ أنه لم يفهمْ معنى الغفران حقَّاً.

 

أولاد الله (متَّى 24:6-34)

 

السلامُ هو الوضعُ الجديدُ الذي نشأ من خلال عمل المسيح، وقَبِلَهُ المؤمنون. تُرافق السلامَ حالةٌ جديدةٌ لمن تصالحوا مع الله. إنهم يُحسَبون الآن أعضاءً في عائلة الله، وبالتالي ورثةً مُؤهَّلين لقبولِ البركة التي وعدَ بها لأولاده (تيطس 7:3).

 

إن الفعل الذي يدخل به الناس إلى السلام مع الله ويصبحون أولادَه فعلٌ حاسم يمكن وصفُهُ بأنه تحوُّلٌ (متَّى 1:18-4). لا تعني الكلمةُ في حدِّ ذاتها تحوّلاً أو تغييراً كبيراً (كأن يتحوَّل موقدُ الغاز ليعملَ بنوعٍ جديدٍ من الوقود، أو مثلما يُحوِّلُ جهازٌ إلكترونيٌّ نوعاً من التيَّار إلى نوعٍ آخر) بقدر ما تعني تغييراً في الاتّجاه. فهي تنطوي على "انعطافٍ تامّ" في طريقةِ حياةِ المرء، كما تعني بشكلٍ ملموس التحوُّلَ من عبادة الأوثان إلى عبادة الله، من نمطٍ قديمٍ في العيشِ في الخطيَّةِ إلى أسلوبِ حياةٍ جديد يكون فيه اللهُ هو الرّبَّ والسيِّد (1 تسالونيكي 9:1-10). ينبغي أنْ يكونَ الناسُ مُستعدّين للخطوة المتواضعةِ بأنْ يصبحوا مثلَ أطفالٍ عاجزين لا يستطيعون فعلَ أيّ شيءٍ لأنفسهم إلّا أنْ يثقوا برعايةِ والدِيهم. من وجهة نظرٍ بشريَّة، أنْ يصبحَ المرءُ مسيحيَّاً، فذلك ينطوي على فعلِ تحوُّلٍ نبدأ فيه الحياةَ من جديدٍ ونسلكُ في اتّجاهٍ مختلف. يستخدم يسوع في متَّى 1:18-4 فكرةَ صيرورةِ المرء مثلَ الأطفالِ بطريقةٍ مجازيَّة للدلالةِ على العودةِ إلى البداية. وفي يوحنَّا 1:3-17 يتكلَّمُ يسوعُ عن ولادةٍ جديدةٍ وبالتالي يقترحُ شيئاً أشبهَ بالتحوُّلِ من الداخل أكثرَ من مُجرَّدِ تغييرِ الاتّجاه.

 

التحوُّلُ في الواقع تغييرٌ لا يمكن تشبيهُهُ من حيثُ مقدارِهِ إلَّا بالولادة الجديدة. هذه الولادة الجديدة هي عملُ الله نفسه الذي يزرع بذرةَ حياةٍ إلهيَّةٍ جديدةٍ داخلنا من خلال كلمته وروحه (يوحنَّا 5:3؛ 1 بطرس 23:1). يحدث هذا عندما نؤمن بيسوع المسيح (يوحنَّا 12:1-13؛ 1 يوحنَّا 1:5) الذي مات ليعطيَنا الحياة (يوحنَّا 14:3-15). لكنّ هذه الحياةَ الجديدةَ هي حياةُ أولادِ الله (يوحنَّا 12:1-13)، وهي تختلف عن الحياة خارجَ عائلة الله في كونها تتَّسمُ بالرجاءِ (1 بطرس 3:1)، والبرِّ (1 يوحنَّا 9:3)، والمَحبَّةِ (1 يوحنَّا 2:5).

 

يُعبَّرُ أحياناً عن الطريقة التي نصبحُ بها أبناءَ الله باستعارةٍ مختلفة، وهي استعارة التبنّي (غلاطية 1:4-7). ومع أنَّ التبنّيَ قد يبدو أضعفَ من الولادةِ الجديدة، فإنّ الحقيقةَ المشارَ إليها هي نفسُها في كلتا الحالتين. نحن بالطبيعة لسنا أعضاءً في عائلة الله، وليست لنا حقوقٌ فيها. لا يمكننا أنْ نجدَ طريقَنا إلى هذه العائلة ما لم يكنِ الآبُ مُستعدَّاً لتبنّينا كأولاده. وعندما يفعل هذا، تكون لنا الامتيازاتُ نفسُها بالضبط كما لو كُنَّا قد وُلِدْنا في العائلة. التبنّي ممكنٌ لأنّ المسيح خلَّصَنا من الخطيَّة، وأزال العيوبَ التي تجعلنا غيرَ مُؤهَّلين لنُدعى أولادَ الله. عندما نؤمن بالمسيح نصبحُ الآن بالتبنّي ما المسيحُ عليه بالطبيعة (رومية 17:8). يُعبِّر بولس عن هذا بالقول إننا نقبل روح الله (رومية 14:8)، تماماً كما كان يسوع نفسه يملك الرُّوحَ، وكان الله يدعوه ابناً له (لوقا 22:3). امتلاك الرُّوحِ دليلٌ على بُنوَّتنا، فنظراً لأننا نمتلكُ الرُّوحَ يمكننا الاعترافُ بيسوع ربَّاً لنا (1 كورنثوس 3:12) ومخاطبةُ الله باعتباره أباً لنا (رومية 15:8).

 

ومع ذلك، يعتقد كثيرٌ من الناس أنَّ الله يمكن وصفُهُ بأنه أبٌ لجميع الناس. يوجد موضعٌ أو موضعان يتحدَّثان بمعنىً عامّ عن الله كأبٍ للبشر بمعنى أنه خالقهُم وحافظُهم، لكنّ هذه المقاطعَ قليلةٌ جدَّاً. لا تُستخدَمُ كلمةُ "الآب" على الإطلاق بهذا المعنى في العهد القديم، والإشاراتُ الوحيدة في العهد الجديد هي (أفسس 14:3-15؛ العبرانيّين 9:12؛ يعقوب 7:1؛ قارن أعمال الرُسُل 28:17-29) ونادراً ما تسمحُ باستنتاجِ إمكانيّةِ التحدُّثِ عن الله دون تكلُّفٍ بأنه الآب لجميع الناس. على العكس، ليست للهِ علاقةٌ إلّا مع الذين يؤمنون به. يعني هذا في زمان العهد الجديد أنه أبو المؤمنين بيسوع وحدهم. عندما يتحدَّثُ العهدُ الجديد عن رعاية الله الأبويَّة للناس (متَّى 25:6-34)، فإن هذا التعليمَ مُوجَّهٌ إلى التلاميذ. فالتلاميذ من جانبهم ينبغي أنْ يُظهِروا "مشابهةَ العائلة" من خلال عيشِ حياةِ القداسة والمَحبَّة (لوقا 36:6؛ 1 بطرس 15:1-17)، ولهذا الغرض يُؤدِّبُهم الله لكي يصبحوا أكثرَ قداسةً (العبرانيّين 5:12-11).

 

يُبيِّن هذا كُلّه أنَّ البشر ليسوا أولادَ الله بالطبيعة، وأنَّ كُلَّ واحدٍ منَّا لا يمكنه أنْ يدخل إلى عائلة الله إلَّا من بابِ التحوُّل والولادة الجديدة. وحتَّى الذين نشأوا في بيئةٍ مسيحيَّة ينبغي أنْ يستيجبوا شخصيّاً ليسوع. لا يمكنهم أنْ يرثوا إيمان آبائهم بالجسد، على الرغم من أنَّ المنزل المسيحيّ قد يكون، بلا شكّ، أحدَ التأثيراتِ الأكثرِ فعاليَّةً المُؤدِّيةِ إلى التحوُّل. لا يعني هذا بالطبع أنَّ كُلّ واحدٍ ينبغي أنْ يخضع لتحوُّلٍ حادّ أو مفاجئ. ففي كثيرٍ من الحالات قد يكون التحوُّلُ بالأكثر عمليَّةً تدريجيَّة، والذين حالفهم الحظُّ في القدوم إلى المسيح بهذه الطريقة قد يردّدون كلماتِ الدكتور ج. كامبل مورغان، الذي خصَّص كتابه "أزمات المسيح" لوالديه اللذين: "منذ أربعين عاماً قدَّماني إلى المسيح ولم يشكَّكا على الإطلاق في قبول المسيح لطفلهما، وكانا منذ الطفولة وفي فترة الشباب يُدرِّبانني على أنني مِلكٌ للمسيح، واللذين تلقَّيتُ منهما معرفتي الأولى عنه بحيث أنه عندما كان من الضروريّ أنْ أختارَ الخيارَ الشخصيّ أدركتُ تأكيداتِ مَحبَّتِهِ دون نفورٍ، وخضعتُ له بولائي ومَحبَّتي دون أنْ أدريَ متى فعلتُ ذلك."

 

الاتّحاد مع المسيح (يوحنَّا 1:15-11؛ رومية 6)

 

بحثنا في القسمين السابقين بالفعل في العلاقةِ الجديدةِ بين المؤمنِ والله الآب. ولكن توجد أيضاً علاقاتٌ جديدةٌ بين المؤمن وكُلٍّ من يسوع المسيح وروح الله. من المستحيل بالطبع التمييزُ بدقَّةٍ بين هذه العلاقات الثلاثة مع مختلف أقانيم الثالوث، حيث أنها تعمل جميعاً من أجل خلاصنا. توجد أشياءٌ تُقال عن يسوع يمكن أنْ تتكرَّرَ بالكلمات نفسها تقريباً عن الرُّوح القدس. يتحدَّث بولس في آياتٍ متتالية عن سُكنى الرُّوح في المسيحيّين وسُكنى المسيح فينا (رومية 9:8-11). ومع ذلك، من المُهمّ أنْ نرى الحقائقَ المُحدَّدةَ المذكورةَ حول علاقةِ المؤمن بالمسيح وبالرُّوحِ القدس على التوالي.

 

على الرغم من أنَّ الآبَ مصدرُ جميعِ البركات الروحيَّة، وأنَّ كُلّ شيءٍ في الخليقةِ الجديدةِ يحدثُ لمجده وتسبيحه (1 كورنثوس 28:15؛ فيلبّي 11:2؛ الرؤيا 4)، فإنَّ الخلاصَ المسيحيَّ بأكمله يستند إلى عمل المسيح. تُعبِّر عن هذه الحقيقةِ واحدةٌ من أكثر العبارات المُمَيَّزة لبولس، وهي ترد بتفاوتاتٍ طفيفةٍ في الصياغة 160 مرَّة في رسائله، وهي عبارةُ "في المسيح". كان يُظَنّ أنَّ هذه العبارةَ عبَّرتْ عن طبيعة المسيح كنوعٍ من الشخصيَّة الكونيَّة التي يتعلَّقُ بها المسيحيّون بنوعٍ من العلاقة الصوفيَّة. وعلى الرغم من أنَّ هذا الفكر قد يكون موجوداً في بعض الأحيان، فإنه من المعترف به الآن أنَّ طبيعةَ هذه العبارة هي بالأكثر أدائيَّةٌ أو ظرفيَّة. فهي تُعبِّرُ عن الحقيقةِ التي تُحدِّدُ حياةَ المسيحيّ، أي حقيقةِ يسوعَ المسيح الذي صُلِبَ وقام من الموت، ويسكن في السماء، وسوف يأتي ثانيةً في المجد. تتحدَّدُ حياة المسيحيّ في كُلّ نقطةٍ من خلال علاقته بيسوع المسيح. فمن خلال عمل المسيح تكون الخليقةُ الجديدةُ ممكنةً. والشخص الذي يسيطر الولاءُ ليسوع على حياته هو شخصٌ جديد (2 كورنثوس 17:5). يختبر المسيحيّون من مختلفِ الأعراق والطبقات الاجتماعيَّة الوحدةَ أحدُهم مع الآخر من خلال علاقتهم المشتركة مع يسوع (غلاطية 28:3). ويرجع هذا إلى أنَّ المسيح الرّبّ يُحدِّد حياتهم وبولس يوصيهم بأنْ يعيشوا على مستوىً أخلاقيٍّ جديد (أفسس 1:6، فيلبّي 2:4؛ كولوسي 20:3).

 

تُظهِر تعبيراتٌ أخرى أنَّ الشخص الذي يؤمن بيسوع يدخل في علاقةٍ شخصيَّةٍ وثيقةٍ معه. يصبحُ عضواً في جسد المسيح (1 كورنثوس 27:12) أو جزءاً من الكرمةِ الحقيقيَّةِ التي هي المسيح (يوحنَّا 5:15). فهو "يلبس" المسيحَ مثلما يلبس المرءُ رداءً جديداً (غلاطية 27:3؛ رومية 14:13). يتحدَّث يسوع عن ثباته في المؤمن وثبات المؤمن فيه (يوحنَّا 4:15-7)، وهذا الوصف للسُكنى المتبادلة يُعبِّر عن قُربِ العلاقة الشخصيَّة التي يصعب وصفُها كلماتٍ. وبالطريقة نفسها، يتحدَّث بولس عن سُكنى المسيح في المؤمن (رومية 10:8؛ كولوسي 27:1). يمكن أنْ يقول المؤمن إنّ إنسانًه العتيقَ قد مات بالفعل وإن المسيحَ يسكن فيه الآن (غلاطية 20:2).

 

وبالتالي، تأسَّسَ اتّحادٌ جديدٌ بين المسيح والمؤمن. وهذا أساس التعليم المُهمّ في رومية، حيث يُبيِّن بولس الكيفيَّةَ التي يشارك بها المؤمنُ في نمط حياة المسيح. مات يسوع المسيح وقام ثانيةً من أجلنا؛ يوجد أيضاً معنى في أننا نموت ونقوم ثانيةً معه. عندما مات يسوع على الصليب، مات بالنيابة عن جميع الناس، وبذلك يمكن القول إنَّ جميعَ الناس ماتوا بموته (2 كورنثوس 14:5). يمكن وصفُ موته بأنه موتٌ عن الخطيَّة أو انتهاء سلطان الخطيَّة عليه. عندما مات يسوع، انتقل من النطاق الذي يمكن للخطيَّة به أنْ تسودَ على الناس (على الرغم من أنه لم تكن لها بالطبع سلطانٌ عليه شخصيَّاً)، لأنه لا ذرائعَ للخطيَّةِ ضدَّ شخصٍ ميِّت، كما أنَّ التجربة لا يمكن أنْ تغريَ الشخص الذي ماتَ عن إغواءات الخطيَّة. يتابع بولس الآن تعليمَه بأنه يمكن القولُ إنّ المسيحيّ مات مع المسيح – وهي حقيقةٌ ربَّما رآها مُوضَّحةً في رمزيَّة "الدفن" في المعموديَّة بالتغطيس. (كانت هذه بالتأكيد واحدةٌ من الطُرق التي كانت تُجرى بها المعموديَّة في الكنيسة الأولى، على الرغم من أنها لم تكنِ الطريقة الوحيدة.) عندما يحدث هذا، لا يعود المؤمنُ تحت سلطان الخطيَّة (رومية 3:6، 6، 7). لقد صُلِبَتْ مع المسيح طبيعةُ المؤمنِ الأنانيَّةُ العتيقةُ، التي كانت قاعدةَ عمليَّاتِ الخطيَّة، ولم يَعُدِ المؤمنُ مُلزماً بطاعتها.

 

وبالمثل، عندما قام يسوع من الموت، قام جميع المؤمنين معه (رومية 4:6-5). دخل بقيامته حياةً جديدة خلقَتْها قوَّةُ الله وأدامَتْها. وبالتالي، فإنّ المؤمنين المسيحيّين الذين يقومون معه يدخلون حياةً جديدة وهبها لهم اللهُ نفسُه الذي أقام يسوع من الأموات، وهذه حقيقةٌ قد يُرمَز إليها أيضاً في فعل الخروج من الماء بعد المعموديَّة بالتغطيس. عليهم الآن استخدامُ تلك الحياةِ الجديدةِ في خدمة الله (رومية 4:6، 8-11).

 

يحدث هذا الاتّحاد بالمسيح في لحظةِ التحوُّل عندما ينضمُّ المؤمنُ إلى المسيح بالإيمان، ونتيجةً له يصبح المؤمنون أمواتاً عن الخطيَّة وأحياءً مع الله. لكن الإيمان المسيحيّ ليس فعلَ لحظةٍ بل هو موقفٌ مُستمرّ. ومن خلال مثل هذا الإيمان المُستمرّ يمكن للمسيحيّ أنْ يحسبَ نفسه ميِّتاً كُلّ يومٍ عن الخطيَّة وحيَّاً لله. على أيّ حالٍ، من الأمور المزعجة أنّه ما دام المؤمن يعيش في العالم ستواجهه إغراءاتٌ تجذب طبيعتًهُ الخاطئةَ العتيقة. ولذلك يحثّ بولس المؤمنين المسيحيّين على الاستمرار في الإيمان والثقة بالمسيح القادر على تقديمِ حياةٍ جديدة لهم، وبالتالي تمكينِهم من التغلُّب على طبيعتهم الخاطئة. فالحياة المسيحيَّة معركةٌ، ولكنها معركةٌ يمكن الانتصار فيها لأنَّ قوَّةَ الله متاحةٌ لمساعدة المؤمنين على تحقيق انتصاراتٍ جديدةٍ على قوَّةِ الخطيَّة.

 

ثارَ الكثيرُ من الجدل حول قدرةِ المؤمن على بلوغِ مرحلةٍ من التحرُّر الكامل من الخطيَّة. إذا كانت نفسُه العتيقةُ قد صُلِبَتْ مع المسيح، فهذا يعني بالتأكيد أنه لم يعدْ بحاجةٍ إلى الخضوع للتجربة. يصرّحُ يوحنَّا بأنّ الشخص المولود من الله لا يخطئ، ولا يمكن أنْ يخطئَ لأنه ابنُ الله وطبيعةُ الله فيه (1 يوحنَّا 6:3، 9). وبالتالي، يتحدَّث بعض الكُتَّاب عن "الكمال المعصوم من الخطيَّة"، ويُؤيِّد البعض أنه من خلال اختبارِ إيمانٍ أعمق في مرحلةٍ بعد التحوُّل، قد يبلغُ المؤمنُ هذه "البركةَ الثانيةَ" المُتمثِّلةَ في العصمة من الخطيَّة. ويشير علماء لاهوتٍ آخرون إلى أنَّ عبارة "الكمال المعصوم من الخطيَّة" غيرُ موجودةٍ في العهد الجديد، وأنه لا يوجد بالتأكيد أيّ مُؤشِّرٍ على وجود أيَّة أزمةٍ ثانية ضروريَّة كمدخلٍ للاختبار المسيحيّ الأكمل، كما يشيرون إلى البيان الواضح بأنه إذا قلنا إنه ليست لنا خطيَّةٌ نُضلّ أنفسنا (1 يوحنَّا 8:1).

 

ينبغي أنْ يراعيَ التفسير الصحيح للكتاب المُقدَّس البيانين الصادرين عن هاتين المجموعتين. ينصّ يوحنَّا على أنَّ جميع أولاد الله لا يمكن أنْ يخطئوا – فالعصمة من الخطيَّة لا يُقصَد بها أنْ تكون امتيازاً لمجموعةٍ خاصَّة – وأننا أيضاً لا يمكن أنْ ندَّعيَ أنّنا أحرارٌ من الخطيَّة. صحيحٌ أيضاً أنه يتحدَّث عن مَحبَّة الله التي تكمَّلت فينا (1 يوحنَّا 12:4). يبدو أنَّ يوحنَّا يُشدِّدُ على النموذج الذي يجب أنْ ينطبقَ على جميع المؤمنين – أي أنْ تسيطرَ مَحبَّةُ الله عليهم تماماً، وبالتالي يجب ألَّا يرتكبوا الخطيَّة – ومع ذلك فهو يدرك أننا يمكن أنْ نخدعَ أنفسنا بسهولة ظانّين أننا بلا خطيَّةٍ. وبالتالي، لا يمكن لأيّ شخصٍ الادّعاءُ بأنه بلا خطيَّةٍ، بَيْدَ أنَّ نموذجَ العصمة من الخطيَّة يظلّ أمامَهُ كشيءٍ مُمكن نتيجة إيمانه بقوَّة الله. لا نجسر على وضع الهدف المُتوقَّع في مكانةٍ أدنى ممَّا وضعه الله، ولا نجسر، على قدم المساواة، على الادّعاء بأننا وصلنا بالفعل، وأنه لا يوجد مجالٌ لمزيدٍ من التقدُّم في التقديس. من مفارقات التقديس أنَّ أولئك الذين يبدون لغيرهم من المؤمنين على أنهم أكثر تشبُّهاً بالمسيح هم أكثر وعياً بنقائصهم.

 

على الرغم من اختلاف علماء اللاهوت حول مسألة الكمال المسيحيّ، فإنهم يوافقون جميعاً على أنَّ رؤيةَ المسيح عند دخولنا إلى محضرِ الله سوف تجعلنا مثلَه تماماً (1 يوحنَّا 2:3)، وهذا حافزٌ قويّ لنكون مُقدَّسين هنا في هذه الحياة (1 يوحنَّا 3:3). قد يُؤدِّي مثلُ هذا التكريس للمسيح إلى الآلام، لكنّ المؤمنَ لديه رجاءٌ أكيدٌ في أنَّ من يتألّم مع المسيح سوف يملكُ معه أيضاً (2 تيموثاوس 11:2-13). وبما أنّ المؤمن صُلِبَ مع المسيح فهو يحيا في المسيح بالإيمان (غلاطية 20:2) مُتيقِّناً أنه يوماً ما سوف يتشاركُ بالكامل في مجدِ قيامة المسيح التي بدأ في معرفتِها معرفةً جزئيَّة (2 كورنثوس 10:4-14).

 

امتلاك الرُّوح (رومية 1:8-27)

 

ترتبط طريقتنا الرابعة للنظر في الحياة المسيحيَّة بعطيّةِ الرُّوح للمؤمن. فمن خلال عملِ الرُّوح في قلوبنا نولَدُ ثانيةً ونُقبَلُ في عائلة الله. والرُّوح نفسُه هو الذي ينقلُ لنا نعمةَ الاتّحادِ بالمسيح بحيث لا يهمّنا كثيراً من الذي يسكنُ قلوبَنا، المسيحُ أم الرُّوحُ (رومية 9:8-11). فهو الذي يُفعّلُ الخلاصَ لنا، ويملأنا بقوَّةِ الله وبركته.

 

يصفُ الكتابُ المُقدَّسُ الرُّوحَ في معظم الأحيان بأنه الرُّوح القُدُس، وهذه الصفةُ تُعبِّرُ عن أهمّ جانبٍ من جوانبِ عمله. فالمسيحيُّ يصبحُ قدّيساً من خلال وجودِ الرُّوح في قلبه (2 تسالونيكي 13:2). فهو ينقلُ إلى المسيحيّ طبيعةَ الله المُحبَّةَ والبارَّة. والاسم الخاصُّ الممنوحُ للذين لهم روحُ القداسة (رومية 4:1) هو القدِّيسون. هذا اللقبُ يُعيِّنُ المسيحيّين في المقام الأوَّل على أنهم مُكرَّسون لخدمة الله وينتمون إليه. وجميع المؤمنين المسيحيّين يحملون لقبَ القدِّيسين بغضّ النظر عن مدى عدم استحقاقهم، بل وحتَّى خطيَّتهم. لاحظْ مثلاً استخدامَ هذا اللقب في 1 كورنثوس 2:1، في رسالةٍ مُوجَّهةٍ إلى كنيسةٍ كانت بعيدةٌ عن الكمال في القداسة. ولكن يُتوَقّعُ من الذين يُسمّون "قدِّيسين" أنْ يكونوا قدِّيسين بمعنى أنهم يتشاركون في طبيعةِ الله الذي ينتمون إليه. ينبغي أنْ يعيشَ القدِّيسون بطريقةٍ تليقُ بالله، وهذا ممكنٌ من خلالِ تأثيرِ التقديس الذي يعمله الرُّوح. جديرٌ بالذكر أنَّه لا أساسَ في الكتاب المُقدَّس للاستخدامِ الخاصّ لمصطلح "قدِّيس" كإشارةٍ إلى أحدِ المسيحيّين البارزين الذين فارقوا الحياة (كالقدِّيس بطرس أو القدِّيس نيكولاس أو القدِّيس إغناطيوس)، وبالفعل فإنّ لاهوتَ إعلانِ قداسةِ أشخاصٍ جديرين وتبجيلِهم يتعارضُ تماماً مع تعليمِ العهد الجديد.

 

يتمثَّل تأثيرُ وجودِ الرُّوح في حياة المسيحيّ في إمكانيَّة استجابتِه الطائعةِ للأوامر ِالأخلاقيَّةِ المتأصِّلةِ في الإنجيل. ينبغي ألّا يعيشَ فيما بعد وفقاً لمبدأ الخطيَّةِ القديم (الذي أشار إليه بولس باسم "الجسد")، بل وفقاً للمبدأِ الجديدِ للرُّوح الذي يُمكِّنهُ من طاعةِ ناموسِ مَحبَّةِ الله (رومية 1:8-4). وبما أنه يملكُ الرُّوح فعليه أنْ يخضعَ لتوجيهِ الرُّوح، وأنْ يُميتَ طبيعتَهُ الخاطئة، ويسمحَ لثمرِ الطبيعة المسيحيَّة بالنموّ فيه. يقارن بولس في غلاطية 16:5-26 بالتفصيل بين نتائج العيشِ بالطريقة القديمة والعيشِ بالرُّوح: تُؤدِّي الطريقةُ الثانية إلى "ثمر" الشخصيَّة المسيحيَّة الناضجة التي تَظهرُ في قائمةٍ كاملةٍ من الصفات تشملُ المَحبَّةَ والفرحَ والتعفُّف. من المُهمّ ملاحظة أنَّ هذه صفاتٌ اجتماعيَّةٌ إلى حدٍّ كبير تَظهرُ في العلاقات الشخصيَّة. ترتبط القداسةُ المسيحيَّةُ ارتباطاً بالغاً بحياةِ المؤمن في المجتمع، وهي ليستْ مُجرَّدَ مسألةِ تكريسِهِ الشخصيِّ لله.

 

حياةُ القداسةِ المتزايدةِ هذه واحدةٌ من أضمنِ العلامات على أنّنا مسيحيّون. فالرُّوح الذي يمتلكُ المرءَ عندما يصبح مؤمناً بالمسيح (رومية 15:8)، والذي يُقوِّيهِ باستمرارٍ ليعيشَ الحياةَ المسيحيَّة (أفسس 16:3؛ 2 تيموثاوس 7:1)، يؤكّد لقلوبنا أننا ننتمي حقَّاً إلى الله ويمكننا أنْ ندعوَهُ الآب (رومية 14:8-16)، كما نتهيَّأُ من خلال عمل الروح لليوم الذي سوفَ نقفُ فيه أمامَ اللهِ في قداسةٍ مثاليَّة (1 تسالونيكي 23:5). وبالتالي، فإنَّ امتلاكَ الرُّوحِ القُدُس هو علامةُ ملكيَّةِ الله أو ختمُهُ لنا، وهو التذوّقُ الأوَّلُ للبركةِ الكاملةِ التي سوف تكونُ لنا في ملكوتِ اللهِ المستقبليّ (2 كورنثوس 22:1؛ 5:5؛ أفسس 13:1-14).

 

وبالتالي، فإنّ امتلاكَ الرُّوحِ هو أساسُ ضمانِنا بأننا مسيحيّون، وامتلاكُ الرُّوحِ في الواقع هو علامةُ المسيحيِّ المؤمن. "إِنْ كَانَ أَحَدٌ لَيْسَ لَهُ رُوحُ الْمَسِيحِ، فَذلِكَ [أي رُوحُ الْمَسِيحِ] لَيْسَ لَهُ" (رومية 9:8). المسألةُ التي تسبَّبتْ في قدرٍ من الجدل بين المسيحيّين هي ما إذا كان بإمكاننا التمييزُ بين هبةِ الرُّوحِ الأوَّليَّةِ هذه التي بدونها لا يكون المرءُ مسيحيَّاً، وبين القبولِ اللاحقِ للرُّوحِ بطريقةٍ جديدة أو أكمل. يشير بعضُ الكُتَّاب إلى هذا الاختبار اللاحق باسمِ "معموديَّة" الرُّوح. ينبغي أنْ نكون حذرين هنا عند التمييز بين اسمِ أيِّ اختبارٍ كهذا وإمكانيَّته. يجب التأكيدُ القاطعُ على أنه عندما يتحدَّثُ كُتَّاب العهد الجديد عن معموديَّةِ الرُّوح، تكون الإشارة دائماً إلى الفعل الأوَّليّ للتحوُّل والتجديد (متَّى 11:3؛ قارن يوحنَّا 33:1؛ أعمال الرُسُل 5:1؛ 16:11. والأشخاصُ الذين تعمَّدوا في أعمال الرُسُل 1:19- 7 ثمَّ قَبِلوا الرُّوح لم يتلقَّوا المعموديَّةَ المسيحيَّة سابقاً، وكانوا مُجرَّدَ تلاميذٍ بالاسم). ومع ذلك، فإنَّ هذا الاختبارَ الأوَّليَّ لقبولِ الرُّوح قد يتبعُهُ اختبارٌ أو اختباراتٌ لاحقةٌ للملءِ بالرُّوح (قارن أعمال الرُسُل 4:2 و 8:4؛ 17:9 و 9:13)، ولكنّ مثلَ هذه الأفعال قد ترتبط أحياناً باختبار نوعٍ من الأزمات، كما في حالة المؤمن الضعيف في إيمانه بالمسيح وطاعته له عندما يُكرِّسُ نفسَهُ من جديدٍ لله، أو عندما يبدأ المؤمنُ خدمةً مُعيَّنةً لله تتطلَّبُ استعداداً جديداً بقوَّة الروح.

 

الاستجابة البشريَّة (كولوسي 1:3-17)

 

خصَّصْنا جزءاً كبيراً من هذا الفصل للنظر في الحياة المسيحيَّة على أنّها هبةُ الخلاص والحياِةُ الجديدةُ التي منحَها اللهُ لنا. علينا الآن مناقشةُ طبيعةِ الاستجابةِ التي ينبغي أنْ تكونَ لدينا من نحوِ الله، والطريقةِ التي نقبلُ بها بركاتِ الخلاص.

الموقف الأساسيّ للمسيحيّ تجاه الله هو الإيمان. الخلاص هو، من بدايته إلى نهايته، هبةُ الله المجانيَّة بنعمته نحو الناس. يترتَّبُ على ذلك أنه لا يوجد شيءٌ يمكن أنْ يعمله الناس لكسب الخلاص أو لجعل أنفسهم جديرين بقبول الهبة. ولو كان ذلك ممكناً، لكانَ عملُ يسوع ناقصاً، وقد مات دونَ سبب (غلاطية 21:2). وهذا المبدأُ الأساسيُّ للإنجيل كان مفقوداً في كنيسة العصور الوسطى، وأُعيدَ اكتشافُه في عهدِ الإصلاح، ومهما أكّدْنا عليه لا نبالغ في ذلك. يعني هذا أنّ الإيمانَ، أي المصطلحَ الكتابيَّ للاستجابةِ البشريَّةِ تجاه نعمةِ الله، هو ببساطةٍ فتحُ أيدينا لقبولِ الهبة الإلهيَّة. لا علينا سوى قبولُ ما يُقدِّمُه لنا الله بفضله. في الواقع، يمكن حتَّى تسميَةُ عمليَّةِ الإيمان هبةً من الله (أفسس 8:2)، مع أنه ينبغي عدمُ إساءةِ فهمِ هذا على أنه يعني أنّ الناس ليس عليهم عملُ أيّ شيءٍ من أجل الخلاص. فعندما يُتاحُ لهم الإيمانُ بسماع كلمة الله المُعلَنة بقوَّة الرُّوح، ينبغي عليهم الاستجابةُ بقبولِ دعوةِ الله (رومية 9:10-10؛ 1 تسالونيكي 13:2).

 

وبالتالي، فإنّ الإيمان في جوهره فعلُ قبولٍ لما يُقدّمه الله لنا. ولكن هذا يعني أنه ينبغي أنْ يتضمّنَ الإيمانَ بصدقِ وعودِ الله. "يَجِبُ أَنَّ الَّذِي يَأْتِي إِلَى اللهِ يُؤْمِنُ بِأَنَّهُ مَوْجُودٌ، وَأَنَّهُ يُجَازِي الَّذِينَ يَطْلُبُونَهُ" (العبرانيّين 6:11). فلكي يقبل الإنسانُ الخلاص ينبغي أنْ يؤمن، ولو ببساطةٍ، أنَّ يسوعَ قادرٌ على خلاصه، حتَّى وإنْ شعرَ بضرورةِ الصلاة من أجلِ إيمانٍ أعظم (مرقس 24:9). ومن هنا، يمكنُ تعريفُ الإيمانِ بأنه عملُ ثقةٍ في اللهِ غيرِ المنظور بناءً على ما كشفَهُ عن نفسه في الكتابِ المُقدَّس، وهذا الإيمانُ يشهدُ عن فعلِ خلاصِ الله العظيم في يسوع المسيح.

 

يدخل عنصران آخران في الإيمان. من الناحية السلبيَّة، التوبةُ هي الابتعادُ عن الخطيَّة والشرّ. يُقاسُ الإيمانُ الحقيقيّ بالله باستعدادِ الشخص لتركِ الخطايا والآلهة الكاذبة التي ملأتْ حياتَهُ، والسماحُ لله بأنْ يسودَ عليه (راجع لوقا 8:19-10). يقول يعقوب إنّ الشياطينَ نفسَها تؤمنُ بالله وتقشعرُّ لكنَ ذلك لا يكفي لخلاصها (يعقوب 19:2). فكونُنا مسيحيّين يتطلَّبُ إدراكَ أنَّ خطايانا أحزنَتِ الله، والأسفَ على أننا أحزنّاه. ينبغي وجودُ استعدادٍ للتخلّي عن الخطيَّةِ وكُلِّ ما يمقته الله. وهذا بالطبع ليس "عملاً" نعمله لاسترضاء الله. فكلّ مشكلتنا أننا نُحبّ الخطيَّة ولا يمكننا أنْ نُحرِّرَ أنفسنا منها، ولا يمكن لقلوبنا أنْ تنهضَ لتمقتَ الخطيّةَ وتحبَّ اللهَ إلّا بواسطة قوّةِ موتِ يسوع التي ترينا بشاعةَ الخطيةِ ودينونةَ الله لها مقترنةً بمحبّتِه الإلهيّةِ العميقةِ للخطاة. 

 

من الناحية الإيجابيَّة، يتميَّزُ الإيمانُ المسيحيّ بالخضوع الكامل لله في المسيح. فالمؤمنُ المسيحيُّ شخصٌ تحوَّلَ من الأوثان ليعبدَ الله (1 تسالونيكي 9:1)، وهو يُخضِعُ نفسَهُ بجملتها إلى الله حتَّى يتقدَّسَ بالتمام (رومية 13:6، 16-23). يَعتبِرُ المسيحيُّ أنَّ يسوع ليس مُجرَّد مُخلِّصٍ يوثَقُ به ولكنه أيضاً ربٌّ يُطاع. من اللافت أنَّ الاعترافَ المسيحيّ المُبكِّر لم يكنْ "يسوع مُخلِّصٌ"، وإنّما "يسوع ربٌّ" (رومية 9:10). إذا كان الله قد دعانا للخلاص الكامل، فذلك الخلاص لا يمكن أنْ يكتملَ إذا كان أيُّ جزءٍ من حياتِنا لم يخضعْ بعد لربوبيّةِ المسيح. 

 

ونتيجةً لذلك، لا يمكنُ اعتبارُ التوبةِ والتكريسِ لله عملَيْنِ نعملُهما مرةً واحدةً فنصبحَ مؤمنين مسيحيّين، وإنّما هما عملان يفعلهما المؤمن على نحوٍ متجدّدٍ ومستمرّ. نستخدم كلمةَ "التحوُّل" للإشارة إلى التغييرِ الأوَّليّ الحاسم الذي يصبح الشخصُ بموجبه مؤمناً مسيحيَّاً، ولكن المسيحيَّ بحاجةٍ إلى الخضوع لعمليَّة "تحوُّلٍ مُستمرّ" تنطوي يوميَّاً على التوبة والإيمان والتكريس.

 

ما دام المسيحيّ في العالم فهو معرَّضٌ للتجربة ولإمكانيَّة الخطيَّة. أصبحَ من التقليديّ أنْ نتحدَّثَ عن "ثالوثٍ" شرِّيرٍ للأعداء الذين يتجمّعون ضدّه: العالم والجسد والشيطان. وغالباً ما يُستخدَمُ مصطلحُ "العالم" في العهد الجديد لا للإشارة إلى الكون المخلوق على هذا النحو، بل بالأحرى للإشارة إلى بيئةِ البشر الكاملة المتّحدة في التمرُّدِ على الله، وتجربة المؤمنين باستمرارٍ في عصيان الله، واتّباعِ إغواءاتها (مرقس 8 :36؛ يعقوب 27:1؛ 4:4؛ 1 يوحنَّا 15:2). يجد المؤمن في طبيعته حليفاً للعالم، لأنه مخلوقٌ من "الجسد"، وهي كلمةٌ تشير إلى حقيقةِ كونه إنساناً ضعيفاً وعُرضةً للخطيَّة (رومية 18:7؛ 1:8-13؛ غلاطية 19:5-21؛ 1 يوحنَّا 16:2). لا تشيرُ كلمةُ "الجسد" إلى الجوانبِ الحسيَّةِ للطبيعةِ البشريَّةِ فقط (قابليَّتنا للشراهة والرذيلة الجنسيَّة وما سواها)، بل إلى كاملِ طبيعتنا البشريَّة بقدرتها على السلوك الأنانيّ غيرِ الأخلاقيّ. يكمنُ وراءَ عمليَّةِ التجربة هذه شخصُ الشيطانِ باعتباره المُجرِّبَ الأكبرَ الذي يهدفُ لشلِّ طاعتنا لله وحياتنا الروحيَّة. فالشيطانُ لا يزالُ نشطاً في تجربةِ المؤمنين واضطهادِهم (1 كورنثوس 5:7؛ 2 كورنثوس 11:2؛ 1 تسالونيكي 18:2) مع أنّ المؤمنين أفلتوا من سلطانه (أعمال الرُسُل 18:26)، ولكنَّ المسيحيَّ لديه رجاءٌ أكيدٌ بالنصرة على الرغم من جميع هؤلاء الأعداء. فهو قادرٌ على التغلُّب على العالم من خلال إيمانه بيسوع (1 يوحنَّا 4:5). ويمكنه بقوَّةِ الرُّوحِ الساكن فيه التغلُّب على رغبات هذه الطبيعة الخاطئة (رومية 13:8؛ غلاطية 16:5-17)؛ وهو يؤمنُ بقوَّةِ اللهِ للتغلُّبِ على مكائدِ الشيطانِ وأجنادِهِ (رومية 20:16).

 

يترتَّبُ على ذلك أنَّ الحياة المسيحيَّة معركةٌ دائمةٌ ضدَّ قُوَى التجربةِ والاضطهاد (أفسس 10:6-17). ويُسمَّى عنصرُ الحرب المُستمرَّة هذا "بالجهاد". وهو مثل جوانب أخرى من الإيمان ليس إنجازاً إنسانيَّاً، بل يعتمد على قوَّة الله الحافظة (1 بطرس 5:1). يثق المسيحيّ بإلهٍ يحفظُ شعبه من السقوط (يهوذا 24) وبِراعٍ يحرصُ على عدمِ هلاكِ أيٍّ من خرافه (يوحنَّا 27:10-29). ولكن ينبغي عدم السماح بأن يصبح هذا أيضاً ذريعةً لإهمالِ المسيحيّ أو تقاعسه. يُحذِّر العهد الجديد بأكثرِ المصطلحاتِ حزماً من إمكانيَّةِ تركِ الإيمان (العبرانيّين 4:6-8؛ 26:10-31، 15:12-17). فوعودُ اللهِ ليست ترخيصاً للخطيَّة مع ضمان الغفران الإلهيّ، بل هي تعزيةٌ للمؤمن الذي يجاهد ضدّ الخطيَّة، وهي تُطمئنه بوجود قوَّةٍ أعظمَ من قوَّتِه الشخصيَّة ترفعُهُ إلى فوق. أمَّا الشخص الذي لا يهتمُّ بثباتِ دعوتِه واختياره (2 بطرس 11:1) فلا يُظهِر سوى أنه ليس واحداً من مختاريّ الله.

 

وبالتالي، فإنَّ الإيمانَ المسيحيّ موقفٌ تجاه الله يدوم مدى الحياة. وهو يعني القبولَ الممتنَّ لكُلّ ما فعلَهُ الله لنا، ويتميَّز بثلاثةِ عناصرَ أساسيَّة: الثقة في وعود الله، والتخلّي عن كُلّ ما يمقتُهُ الله، والالتزام الكامل تجاهه.

 

يُعبِّرُ مثل هذا الإيمانِ عن نفسه خارجيّاً في الصلاة والأعمال الحسنة. فمن خلال الصلاة نُظهِر إيماننا بالله. نقترب إلى الله ونُسبِّحه ونعبده لصلاحه. نُعبِّر عن ثقتنا به من خلال تقديمِ طلباتنا له مؤمنين أنه سوف يستجيبُها وفقاً لما هو أفضلُ لنا. ونُعبِّر عن تكريسنا حين نصلّي: "لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ" (متَّى 10:6). علَّم يسوع نفسُه أتباعَه كيفيَّةَ الصلاة (لوقا 1:11-13؛ راجع متى 5:6-15)، ونحن نرفع صلواتِنا باسمه، أي على أساس حقيقة كونه مُخلِّصَنا وشفيعَنا عند الله. ونتقدَّم من خلاله واثقين إلى عرش إلهٍ كريم (العبرانيّين 14:4-16)، وروح الله نفسه يعينُنا في صلواتنا (رومية 26:8-27).

 

إذا كنّا نعبّرُ عن الإيمان تجاه الله في الصلاة، فإننا نعبّر عنه تجاه إخواننا من البشر في الأعمال الحسنة. فالمسيحيّ لم يَخلُصْ لمصلحته الشخصيَّة فقط بل لعمل أعمالٍ صالحةٍ (أفسس 10:2). صحيحٌ أننا لا نستطيع التكفير عن خطايانا بالأعمال الصالحة، إلَّا أنَّ الإيمانَ الحقيقيَّ يُعبّرُ عن نفسه في أعمال المَحبَّة واللُطف، والإيمان الذي لا يظهر في سياق الأعمال الحسنة ليس إيماناً على الإطلاق (يعقوب 26:2). يصفُ بولس الإيمانَ الحقيقيّ على أنه إيمانٌ عاملٌ بالمَحبَّة (غلاطية 6:5). وبالمثل، يقول يوحنَّا إنَّ الشخص الذي يدَّعي أنه يُحبّ الله ويكره أخاه كاذبٌ (1 يوحنَّا 20:4).

 

يُبيِّن لنا هذا أنَّ الإيمانَ والحياةَ المسيحيَّة ليسا مُجرَّد مسألة علاقةٍ فرديَّة مع الله. فكوننا مسيحيّين يُؤثِّر على وضعِنا كُلّه في العالم وعلى جميعِ علاقاتِنا البشريَّة. سوف ننظر في الفصل التالي في مكانةِ المسيحيّ، على وجه الخصوص، كعضوٍ في شعب الله الجديد في الكنيسة.

 

أسئلةٌ للدراسة والمناقشة

 

  1. يشكّ كثيرٌ من الناس في أنّ الله يقدرُ حقَّاً على خلاصهم بسبب خطيَّتهم. كيف تستخدم مناقشة الخلاص لتشجيعهم (أي السياقات الزمنيَّة الثلاثة، والكفاية، والهبة)؟

  2. هل تُفكِّر في "الحياة الأبديَّة" كمُلكيَّةٍ حاضرة؟ ما التطبيق العمليّ لهذا التفكير على كيفيَّة حياتك اليوم؟

  3. عقد بيل ماونس واحدةٌ من أكثر المناقشات اللافتة للانتباه حول التبرير مع أحد الطُلَّاب. لم يكنِ الطالبُ قد سمع حتَّى عن العقيدة، وكان مقتنعاً بأنه في أيّ وقتٍ يخطئ فيه يفقد خلاصه ويمكن أنْ يذهبَ إلى الجحيم إذا لم يتُبْ قبل الموت. كيف يمكنك تقديمُ المشورةِ له بناءً على مناقشة مارشال حول التبرير؟

  4. يدور أحدُ النقاشات اليوم حول طبيعةِ التحوُّل، ويؤكّد مارشال نظرته في أنّ التحوُّل يتضمَّن "تغييراً في الاتّجاه"، و"انعطافاً تامًّاً"، و"ولادةً جديدة". ما شعورك بخصوص هذا ؟ هل هذا هو التعريف الذي اعتدت عليه؟

  5. من بين جميع استعارات التحوُّل، أيَّةُ استعارةٍ هي الأكثر قيمةً بالنسبة لك؟ لماذا؟

  6. ما الأسس التي يستند إليها المسيحيّ للتأكُّد من أنه (أ) ابن الله الآن، و(ب) سوف يدخل الحياة في السماء؟

  7. هل تعرف أيّ شخصٍ كان تحوُّله بطيئاً وتدريجيَّاً جدَّاً لدرجة أنه لم توجدْ أيَّة مرحلةٍ اتَّضحَ فيها أنه أصبح ابناً لله؟ ما مزايا هذا النوع من التحوَّل وما هي عيوبه (مقارنةً بالتحوُّل الحادّ)؟

  8. وصفَ مارتن لوثر حالةَ المسيحيّ كونه مُبرَّراً وخاطئاً في الوقت نفسه: ماذا يعني هذا الوصف وهل تقبله؟

  9. هل سبق والتقيت بشخصٍ يقول إنه قد حقَّق "الكمال المطلق" ولم يعدْ بإمكانه ارتكابُ الخطيَّة؟ كيف تتعامل مع هذا؟

  10. هل توافق مع فهم مارشال لـ "معموديّة الرُّوح" وما يلي ذلك من "الامتلاء بالرُّوح" أم تختلفُ معه؟ هل سبق واختبرتَ هذا الامتلاء اللاحق؟ شاركْ عن طبيعته.

  11. يشمل الإيمان كُلّاً من قبول ما يُقدِّمه الله وكذلك التوبة عن الخطيَّة والخضوع لله في المسيح. ما رأيك في هذا التعريف؟ اذكر بعض نتائج الإيمان الفعليّ بذلك.

  12. ما المقصود بـ "الأعمال الأعظم" في يوحنَّا 12:14؟