Loading...

دليل المعتقدات المسيحيَّة - Lesson 2

معرفتنا بالله

تخبرنا العقيدة المسيحيَّة بما يؤمن به المسيحيّون عن الله. ولكن قبل أن نتمكَّن من مناقشة ما نؤمن به عن الله، ينبغي أن نعالج السؤال الأوَّليّ حول كيفيَّة التعرُّف على الله وعلى وجوده وطبيعته وأفعاله. فهذا السؤال له أهميَّةٌ حاسمة لأن الاختلافات بين المواقف اللاهوتيَّة المُتنوِّعة التي يعتنقها المسيحيّون غالباً ما تعتمد على اختلافاتٍ في طريقة التفكير بخصوص كيفيَّة معرفة الله.

I. Howard Marshall
دليل المعتقدات المسيحيَّة
Lesson 2
Watching Now
معرفتنا بالله

Lessons
Transcript
  • ما دام الله قد أوحى بالفعل بالكتاب المُقدَّس، ربَّما يسأل أحدهم عن سبب دراسة العقيدة المسيحيَّة قائلاً: هل يكفي بالتأكيد أن يدرس المرء الكتاب المُقدَّس دون الانشغال بمسألة العقيدة؟ ربَّما تكون أبسط إجابةٍ عن هذا السؤال هي أن أيّ شخصٍ يدرس الكتاب المُقدَّس إنَّما يدرس العقيدة في الواقع. المناقشة المنهجيَّة للاهوت المسيحيّ سوف تنقل الطالب إلى العديد من مصادر المعرفة ومجالات التفكير. وسوف يكون هدفنا هنا هو الهدف الأكثر تواضعاً المُتمثِّل في محاولة وضع التعليم الكتابيّ الذي يُشكِّل أساس اللاهوت المسيحيّ.

  • تخبرنا العقيدة المسيحيَّة بما يؤمن به المسيحيّون عن الله. ولكن قبل أن نتمكَّن من مناقشة ما نؤمن به عن الله، ينبغي أن نعالج السؤال الأوَّليّ حول كيفيَّة التعرُّف على الله وعلى وجوده وطبيعته وأفعاله. فهذا السؤال له أهميَّةٌ حاسمة لأن الاختلافات بين المواقف اللاهوتيَّة المُتنوِّعة التي يعتنقها المسيحيّون غالباً ما تعتمد على اختلافاتٍ في طريقة التفكير بخصوص كيفيَّة معرفة الله.

  • على الرغم من أننا لا نستطيع معرفة الله بالبحث، فإن الله كشف لنا نفسه بطُرقٍ يمكننا فهمها. بما أننا مخلوقاتٌ مصنوعة على صورة الله (التكوين 26:1)، من الممكن أن يكون لنا بعض الفهم عن الله الذي صنعنا. كشف الله عن نفسه بلغة البشر، وبما أننا ندرك أن لغة البشر وسيلةٌ صادقة لكنها غير كافيةٍ لتوصيل حقيقة الله، يمكننا إحراز بعض التقدُّم في الفهم. لاءم الله نفسه بلطفه لعقولنا الضعيفة والخاطئة من خلال التكلُّم إلينا في إعلانٍ شخصيّ، ولذلك ينبغي أن نتذكَّر أن الشخص نفسه أعظم من الإعلان. علينا أن نتذكَّر أنه أبعد من نطاق فهمنا وأن الكلمات البشريَّة لا يمكنها التعبير عنه كما يحقّ وأنه لا يزال بإمكاننا أن نقول المزيد عنه.

  • القصَّة التي تدور في الكتاب المُقدَّس من سفر التكوين إلى سفر الرؤيا هي قصَّة كيفيَّة خلق الله العالم وسقوط العالم في الخطيَّة وتمرُّده عليه وكيفيَّة بدء الله عمليَّة خلقٍ جديد سوف يستمرّ لحين انتهاء كُلّ أثرٍ للخطيَّة. البشر ذروة خليقة الله وتاجها لأنهم صورة الله على عكس المخلوقات الأخرى (التكوين 26:1-27). وسريعاً ما تبع خلق البشر دخول الشرّ في قلوبهم. فقد خُلِقوا بإمكانيَّة الاختيار بين الصواب والخطأ وبين طاعة الله وعصيانه. لكنهم اتَّخذوا القرار الخاطئ بتحريضٍ من المُجرِّب فدخلت الخطيَّة العالم بجميع عواقبها الرهيبة.

  • الموضوع الرئيسيّ للاهوت المسيحيّ الذي يضفي عليه طابعه المسيحيّ هو مجيء يسوع إلى العالم مُخلِّصاً إيَّاه من الخطيَّة. ومجيئه على حدٍّ سواء إعلانٌ عن طبيعة الله المُقدَّسة المُحبَّة كما أنه فعل المَحبَّة السامية الذي يصالح به الله الخطاة لنفسه.

  • المرحلة التالية في دراسة العقيدة المسيحيَّة تراعي النظر في الحياة الجديدة التي يهبها الله لمن يقبلون يسوع مُخلِّصاً لهم من الخطيَّة. سوف نبدأ بالنظر إلى كلمتين عامَّتين تُستخدَمان لوصف اختبارنا كمسيحيّين، ثم نناقش أربعة جوانب مختلفة للحياة المسيحيَّة، وسوف ننظر أخيراً في طبيعة استجابتنا لهبة الله المُتمثِّلة في الخلاص والحياة الأبديَّة.

  • لا يمكن للمرء أن يصبح مسيحيَّاً بمُجرَّد الإيمان بيسوع المسيح دون أن يصبح في الوقت نفسه عضواً في شعب الله مع جميع إخوته المؤمنين وأن يشارك في حياة الكنيسة. في الواقع، لم يكن من الممكن أن نعرف يسوع دون شهادة المسيحيّين الآخرين وعملهم في ترجمة الكتاب المُقدَّس وتوزيعه وصلواتهم من أجلنا. لم يأتِ يسوع لخلاص الناس بمعزلٍ عن بعضهم البعض بل لتأسيس مجتمعٍ جديد من الناس يعملون على بنيان بعضهم البعض في الإيمان وكرازة العالم. ينبغي علينا الآن استكشاف معنى الكنيسة ومهامها.

  • يهتمّ علم الأخرويَّات بالتدخُّل الأخير لله في التاريخ لإنهاء العالم الحاضر الشرِّير ولبدء العالم الجديد. لكن فعل الله هذا لا يقتصر على المستقبل لأن الله بدأ خليقته الجديدة في مجيء يسوع وتأسيس الكنيسة. جرت العادة على فهم النبوَّات المُتعلِّقة بالأيَّام الأخيرة على أنها كانت تتحقَّق في الأيَّام الأولى للكنيسة. ولذلك، لكي نفهم ما سوف يحدث في المستقبل نحتاج إلى تلخيص قدرٍ من القصَّة الكتابيَّة حتَّى نضع المستقبل بعين الاعتبار.

2

 

معرفتنا بالله

 

تُخبِرنا العقيدةُ المسيحيَّة بما يؤمنُ به المسيحيّون عنِ الله. ولكن قبل أنْ نتمكَّنَ من مناقشة ما نؤمن به، ينبغي علينا معالجةُ السؤال الأوَّليّ حول كيفيَّةِ التوصُّلِ لمعرفةِ الله، والتعرُّفِ إلى وجودِهِ وصفاتِهِ وأفعالِه. هذا السؤال ذو أهميَّةٍ حاسمةٍ لأنَّ الاختلافاتِ بين المواقف اللاهوتيَّة المُتنوِّعة التي يعتنقُها المسيحيّون تعتمد في كثيرٍ من الأحيان على الاختلافات في طريقةِ التفكيرِ بخصوصِ الوصولِ إلى معرفةِ الله.

 

توجد ترنيمةٌ مسيحيَّةٌ معروفة قد تقترحُ إجابةً مُحتمَلة لسؤالنا. يحتوي قرارُ الترنيمة على التأكيد المُذهِل "يسوع حيٌّ فيّ" ويُقدِّم بياناً لقيامةِ يسوع. يستفيض كاتبُ الكلمات فيطرحُ السؤال: "أتسألني كيف أعرفُ أنه حيٌّ؟" ثم يجيبُ نفسَه: "يسوع حيٌّ فيّ". كيف تعرفُ وتُثبِتُ أنّ يسوع المسيح حيٌّ اليوم؟ جواب هذا الكاتب هو أنه يمكننا الاحتكامُ إلى اختبارِ حضورِهِ في قلوبنا. وانتقالاً من ذلك توجد خطوةٌ قصيرة للاستنتاج بأننا نُسجِّلُ العقيدةَ المسيحيَّةَ من خلالِ وضعِ اختبارِنا على الورق.

 

كُتِبَ كتابٌ قبل سنواتٍ تحتَ عنوان لاهوت الاختبار. أمَّا اليوم فهو منسيٌّ تقريباً، لكنّ عنوانَه قد يكون مُلَخَّصاً لهذا النوع من النهج. وهو يُؤكِّد على أنّ المعرفةَ واليقينَ في الدينِ لا يأتيان من الحُجَّةِ الفكريَّة بل من القناعةِ الداخليَّة. يوجد مَلمَحٌ للحقّ هنا، فقد يعرف الإنسان كُلّ شيءٍ عن المسيحيَّة في ذهنِه من خلالِ الحُجَّةِ والمنطق، ولكن ما لم يعرفْ هذا أيضاً في قلبه فإنه لن يُحدِثَ اختلافاً كبيراً في حياتِه. سوف يبقى لاهوتُهُ بارداً ومُجرَّداً، تماماً مثلما كان الحال مع جون وسلي الذي بقيَتْ معرفتُه الصحيحة بالإنجيل مُمِلَّةً وجامدة إلى أن شعر "بدفءٍ غريب" في قلبه، وأصبحَ ما يعرفه في رأسه اختباراً واقتناعاً شخصيَّين. لا يمكننا الاستغناءُ عن الاختبار المسيحيّ.

 

ليس من المُستغرَب إذاً أن يظنَّ بعضُ الناس أنّ كتابة العقيدة المسيحيَّة تنطوي على وضعِ ما تعلَّمتَهُ من اختبارِك المسيحيّ. يعمل العلماء شيئاً كهذا على أيّ حالٍ، فهم يُجرون تجاربَهم، ويتوصَّلون بالاكتشاف الشخصيّ إلى ما يجري، ثم يصوغون نتائِجَ تجاربهم، ويُقدِّمون شرحاً لها، فالعلمُ يعتمدُ على الطريقةِ التجريبيَّة. ألا يجبُ أنْ يستمرَّ علمُ اللاهوت بالطريقةِ نفسها؟

 

يبدو الأمر ممتازاً، لكنه لا يُجدي، فمن السهل جدَّاً أنْ نخلطَ بين الإيمان والمشاعر. وقد يتفاوتُ وعيُ الشخص بوجود الله من يومٍ لآخر، ويختلف مع تغيُّرِ الظروف. فالاختبارُ أساسٌ متحوِّلٌ جدَّاً في أمور الدين، كما أن الناسَ قد يبدأون مرَّةً أخرى في المقارنة بين اختبارِهم واختبارِ الآخرين، ويكتشفون أنّ جميعَ اختباراتهم مختلفةٌ. قد لا يشرحون حتَّى اختبارَهم في سياقٍ مرتبطٍ بالله على الإطلاق. توجد اختلافاتٌ هائلة حتَّى بين المسيحييّن في المنظور والمشاعر. وعاجلاً أم آجلاً، سوف يتوجّبُ على المرء أن يسأل: كيف أُحدِّدُ بأيّ اختبارٍ من اختباراتي أثق؟ كيف يمكنني المقارنةُ بين اختباراتِ أشخاصٍ مختلفين ومعرفةُ الصحيح منها؟ لا يمكن الإجابةُ عن هذه الأسئلةِ على مستوى الاختبار.

 

ربَّما يجب أن نُجرِّبَ إذاً شيئاً أكثرَ موضوعيَّةً وموثوقيَّة. لنفترضْ أننا وضعْنا المنطقَ مكانَ الاختبار لأنّ استخدامَ المنطق يمكن أن يُؤدِّيَ إلى معرفةٍ أكثرَ تحديداً، كما هو الحال في منطق الرياضيَّات. ليس من المُستغرَب أن يكون هذا المسارُ قد جُرِّبَ في علم اللاهوت. ينبغي في الواقع أن يَدْخُلَ عنصرُ المنطق في علم اللاهوت. وحتَّى عندما تحدَّثْنا عن استخدام الاختبار كأساسٍ، كان من المُفترَض أن نُفكِّر في أهميَّة اختبارنا، والتفكيرُ معناهُ المنطق. والتفكير في علم اللاهوت، كما نفعل الآن، هو بالتأكيد استخدامُ منطقِنا. من الواضح أننا لا نستطيع إتمامَ علمِ اللاهوت دون توظيفِ المنطق، ويمكننا بعد ذلك أن نتركَ العاطفةَ والاختبار خارج الدين.

 

لكنَّ الاقتراحَ يتجاوزُ هذا. فالتفكير والمنطق هما مصدرُ معرفتنا بالله وطُرقِه. أصدر الفلاسفة، على سبيل المثال، حُججاً عن وجود الله استناداً إلى استخدام المنطق، وحاولوا استنتاجَ الهيئةِ التي يبدو عليها الله، والكيفيَّةِ التي يتصرَّف بها. وقد اُعْتِبرَ علمُ اللاهوت نظاماً للأفكار التي يمكن اكتشافُها عن طريق المنطق.

 

ولكنْ ينبغي علينا مرَّةً أخرى أن نكون حاسمين ونسأل ما إذا كان هذا النهجُ ينجَحُ حقَّاً. هناك اعتراضان رئيسيَّان. هل عقولنا كبيرةٌ بما يكفي للتفكير تفكيراً صحيحاً في الله؟ فمن معرفتنا البسيطة إلى حدٍّ ما عن الله كمؤمنين مسيحيّين، لدينا من المنطق ما يجعلنا نعتقد بأنه غير محدودٍ. كيف يمكن لعقولنا إذاً أن ترقى إلى مستوى مُهمَّةِ فهمه؟ هذا شيءٌ مستحيل. نُؤكِّد على أنه حتَّى إذا نجحْنا في تكوين فهمٍ عقليّ لله، فكيف نعرف أنه يتوافقُ مع الواقع؟ كيف نعرف أنّ أفكارَنا تتوافقُ مع ما هو حقيقيٌّ؟ كيف نعرفُ من خلال استخدام المنطق أنّ اللهَ موجودٌ؟

 

تؤولُ مثلُ هذه الحُججٍ إلى اقتراحِ أنّ المنطق يجب أن يكونَ مُدركِاً لمحدوديَّاته الخاصَّة. من الواضح أنّ المنطقَ ليس مفتاحَ علم اللاهوت على الرغم من أنه، مثل الاختبار، له قيمته ولا يمكن وضعُه جانباً. أمَّا الخطأ فيكمن في أننا في كلتا الحالتين قد بدأنا بالبشر محاولين أن نكتشفَ من خلال قدراتهم ما الذي يشبهُهُ اللهُ دون الوصول إلى نتائجَ جيِّدة. ما نحتاجُه هو بعضُ الأدلَّةِ على نشاط الله، وهو شيءٌ يفعله الله كي يعرّفَنا بنفسه، أي الإعلان. كُنَّا نتحدَّثُ حتَّى الآن عن الاكتشاف من قِبَلِ البشر؛ أمَّا ما نحتاجه فهو الإعلان من الله. يتوافق الاثنان معاً بالطبع. ينبغي علينا اكتشافُ الإعلان وقبولُه من خلال استخدام مَلَكاتنا، ولكن إشكاليَّتنا نشأتْ لأننا بدأنا من النهاية الخاطئة، وبدأنا بأنفسنا بدلاً من الله. ينبغي أن يكون لكُلٍّ من الاختبار والمنطق شيءٌ ما يعملان عليه وإلَّا فسوف يظلَّان فارغَيْن. وينبغي أن تكون استنتاجاتُ كُلٍّ من الاختبار والمنطق قابلةً للاختبار من بعض المعايير الخارجيَّة الموضوعيَّة، وإلَّا فسوف تبقى استنتاجاتُهما غير مُؤكَّدةٍ وغير مستندةٍ إلى أساسٍ سليم.

 

وبالتالي، من الأساسيّ أن نُدرِكَ أنه إذا كان يوجد إلهٌ فلا يمكن معرفتُه إلّا من خلال إعلانه عن نفسه: "لا يمكن معرفة الله إلَّا من خلال الله وحده". ما ينبغي أن نسأله الآن هو ما إذا كان الله قد أعلن عن نفسه للفهمِ البشريّ، والكيفيَّةُ التي أعلن بها ذلك.

 

الإعلان في الطبيعة (إشعياء 40)

 

اِنجرَّ الناسُ في جميع الأعمار والثقافات تقريباً للاعتقاد بوجودِ قوّةٍ أو قُوى أكبرَ من أنفسهم من خلال النظر إلى طبيعة العالم من حولِهم (راجع المزمور 19). وحقيقةُ وجودِ عالَمٍ من الأساس دفعتِ الناسَ للتساؤل عمَّا إذا كان العالمُ قد ظهرَ إلى الوجود بمفردِهِ أو أنه لا يشير إلى نشاطِ خالقٍ (وهذا ما يُسمَّى بالحُجَّة الكونيَّة لوجود الله). نُؤكِّد على أنّ الكونَ ليس التقاءً عشوائيَّاً للأجزاء، لكنّه يُظهِرُ دليلاً على التركيب بل الجَمال أيضاً: يمكن للمرء أن يسألَ ما إذا كان الدليلُ على "التصميم" لا يشير إلى وجودِ مُصمِّمٍ (الحُجَّة الغائيَّة). وأخيراً، توجد حقيقةٌ مفادُها أنه على الرغم من أنّ الكون ماديٌّ في التركيب، إلّا أنه يوجد نشاطٌ عقليّ وروحيّ فيه، وتوجد أفكارٌ مثل الخير والعدل والمَحبّة، والتي  لا يمكن أن تكون قد نشأتْ من مُجرَّدِ نظامٍ ماديّ. ألا يشيرُ هذا إلى وجودِ كائنٍ أخلاقيّ وروحيّ كخالقٍ للكون (الحُجَّة الأخلاقيَّة

 

تثيرُ طبيعةُ الكون إذاً تساؤلاتٍ حول أصلِه وخاصيَّتِه. وقد صيغَتْ هذهِ الأسئلةُ في شكلِ حُججٍ لوجود الله وطبيعته، ولكنْ ظهرَ جدالٌ كبير حول ما إذا كانتْ هذه الحُججُ تُثبِتُ أيَّ شيءٍ في الواقع. الحقيقة هي أنّ العديدَ من المُفكِّرين غير مقتنعين بها، ويمكن القولُ إنّ الحُجَّة التي لا تُقنِع الناسَ الأذكياء ليست حُجَّةً مُقنِعة، لأنها في الواقع لا تُجبِرُ على الموافقة. من ناحيةٍ أخرى، يمكن القول على قِدَمِ المساواة إنّ الحُججَ المُضادَّةَ التي تهدف لدحض وجود الله لم تكنْ أكثرَ نجاحاً. فالوضع أشبهُ بالمأزق. يمكن القول إنّ الحُججَ التقليديَّة تُظهِر أنّ الإيمانَ بالله عقلانيٌّ، وتساعد على تأكيدِ الإيمان بالله على أساسِ أسبابٍ أخرى. قد يُنظَرُ إلى الكون في ضوءِ الأدلَّة الأخرى على أنه يُشكِّل إحدى الطُرق التي كشفَ بها اللهُ عن نفسه لنا، ولكنْ تبقى الحقيقةُ أنّ هذا الإعلان هو  إعلانٌ منثورٌ إذا ما أخذناه بمفرده، وأنه في أفضل الحالات لا يمكنه أن يُعلِّمَنا إلّا القليلَ عن طبيعة الله. ومعَ أنّ بولس آمنَ أنّ الخليقة تكشف عن الله، إلَّا أنه أدرك أنَّ عقولَ البشر كانت عمياءَ عن أهميَّتِها (رومية 18:1-23). من الواضح أننا ينبغي أن نبحثَ عن إمكانيَّةِ وجودِ أدلَّةٍ أخرى.

 

الإعلان في التاريخ (المزمور 78)

يمكننا أنْ نخطوَ خطوةً أخرى من خلال التساؤل عمَّا إذا كان يوجدُ أيُّ دليلٍ على نشاطِ الله في الأحداث التاريخيَّة. هل توجدُ أيَّةُ طريقةٍ يكشفُ بها شكلُ التاريخِ البشريّ عن حضور الله؟ كان هذا بالتأكيد اعتقادَ بني إسرائيل. كانوا يؤمنون أنه، فيما يتعلَّقُ بماضيهم، تكلَّمَ الله إلى إبراهيم ودعاهُ ليتركَ أرضَه، ويستقرَّ في كنعان حيث سيكون سَلَفاً لأمّتِهم. وآمنوا بعد نجاتِهم من السبي في مصر أنّ الله هو الذي أخرجهم. أقام الله موسى ليكون قائداً لهم، ونقلَهُمْ موسى عبرَ الماءِ والبريَّة إلى أرض الميعاد. أعطاهم حُكَّاماً ولبَّى رغباتِهم. عندما كانوا يُخطِئون كانوا يعتبرون أنّ بلاويهم هي دينونةُ الله على خطاياهم، وعندما كانوا يزدهرون كانوا يعتبرون أنَّ هذا دليلٌ على بركة الله. وبالتالي، كانوا يتحدَّثون عن يهوه (أي الله بحسب لغتهم) باعتباره اللهَ الحيّ، ممَّا يعني أنه كان فعَّالاً ويصنعُ الأشياء، على عكسِ أصنامِ الأمم الميِّتة.

 

لدينا هنا بالتالي إعلانٌ عن الله يُظهِر اهتمامَه بالناس ويَعرضُ دينونَته الأخلاقيَّة على العالم، وهذا يأخذنا خطواتٍ أبعدَ بكثيرٍ من الإعلان في الطبيعة. ليس من المُستغرَبِ أن يتوقَّفَ بعضُ علماء اللاهوت عند هذه النقطة ويقترحوا أنّ الطريقةَ التي يكشف بها اللهُ عن نفسه هي ببساطةٍ من خلال الأحداث. الوحيُ في وجهة النظر هذه يعني العملَ الإلهيّ. ومع ذلك، فإنّ الأمرَ ليس بهذه البساطة. كيف نميّزُ الأحداثَ التي تشير إلى نشاط الله؟ وكيف نستشفُّ أهميّتَها؟ إذا نظرتَ إلى سِجلّاتِ جيران إسرائيل، فسوف تجد أنهم نظروا إلى الأحداث نفسها لكنّهم فسَّروها تفسيراً مختلفاً تماماً – هذا إذا كانوا قد كلَّفوا أنفسهم عناءَ تفسيرِها في المقام الأوَّل. رأوا نشاطَ آلهتهم في بعضٍ منها، وكانوا ينكرون تفسيرَ الإسرائيليّين من حيثُ نشاطِ يهوه.

 

بالإضافة إلى ذلك، ربَّما نسألُ ما إذا كان إعلان الله هذا كافياً. فالله الذي لا يعملُ إلَّا في التاريخ هو إلهٌ غيرُ شخصيٍّ. وليس من الواضح أنه يمكن للأفراد معرفتُه. يشير اختبارُنا المسيحيّ (الذي قد نناقشه بصفةٍ قانونيَّة) إلى أنه ينبغي معرفةُ شيءٍ أكثر من هذا عن الله.

 

الإعلان في يسوع المسيح (يوحنَّا 19:5-47)

كان مجيءُ يسوع أسمى إظهارٍ وتحقيقٍ للإعلان الذي بدأ اللهُ عملَهُ في حياة إسرائيل. أكَّد يسوعُ على أنه يتكلَّمُ باسم الله، وأنه يُعرِّفُ الناسَ بمشيئة الله. وقد كشف في شخصيَّته وأفعاله طبيعةَ الله وأظهر البرّ والمَحبَّة اللذين يمكن اعتبارُهما انعكاساً لشخصيَّة الله. صنع أعمالاً عظيمة أثارَتِ السؤالَ عن عدمِ كونهِ رجلاً عاديَّاً، والأهمُّ من ذلك كُلّه، آمن تلاميذُه بعد موته أنه عادَ للحياة مرَّةً أخرى، وأنهم تمكَّنوا من رؤيتِه والتحدُّثِ إليه. آمن أتباعُه بشكلٍ ما أنّ "الله كان في المسيح" (2 كورنثوس 19:5) وتحدَّثوا عنه باعتبارِهِ كلمةَ الله.

 

اتَّخذ الإعلانُ في يسوع المسيح شكلاً شخصيَّاً. لم يَعُدْ مُجرَّدَ رؤيةِ آثارِ نشاطِ الله في الطبيعة أو التاريخ. آمن أتباعُهُ أنّ الله كان يوجد بشخصه، ويُعرَفُ على أنه الإنسان يسوع. تواصلَ الله معنا من خلال التحدُّثِ بالكلمة الذي كان في الحقيقةِ شخصاً. من المُؤكَّد أنّ هذا هو الإعلانُ الأسمى عن الله، وهو كذلك. ولكننا نواجهُ مرَّةً أخرى السؤالَ نفسَه الذي واجهناه منذ قليلٍ: كيف نعرف أنّ يسوع كان إعلاناً عن الله؟ كيف نعرف ما يقوله الله من خلاله؟ وللتأكيد أيضاً، كيف نعرف ما قاله يسوع وما فعله بما أننا لم نحظَ بامتيازِ رؤيتِهِ بأنفسنا؟ وهو ليس سؤالاً أحمق أو خارجاً عن الموضوع، لأنّ الحقيقةَ البسيطة هي أنّ الناس شكَّلوا الكثيرَ من الأفكار المختلفة عن يسوعَ وأهميَّتِه. وحتَّى إذا كان الإعلانُ في يسوع هو الإعلانَ الأسمى عن الله، فإنه ليس بالضرورةِ إعلاناً كافياً لنا.

 

الإعلان في الكتاب المُقدَّس (الرؤيا 1)

تكمنُ الإجابةُ عن الأسئلةِ التي طرحْناها في وجودِ الكتابِ المُقدَّس. إذا نظرنا إلى تاريخ إسرائيل نجدُ أنّ الأنبياءَ عبَّروا عنْ أهميَّةِ هذا التاريخِ مؤكِّدين على أنهم تكلَّموا باسم الله (1 صموئيل 3؛ إشعياء 6؛ هوشع 1؛ عاموس 14:7-15). فقد أعلنوا للناس أنَّ شخصيَّةَ يهوه كانت بارَّةً ومُتحَّابة (إشعياء 3:6؛ عاموس 6:5-7؛ التثنية 8:7؛ إرميا 3:31؛ هوشع 1:11)، وأنّ إسرائيلَ كان شعبَه المختار (التثنية 7:7-8؛ إرميا 23:7؛ 11:13) وأنّ اللهَ لم يطلُبْ منهمُ العبادةَ فقط ولكنْ أيضاً البرَّ والمَحبَّةَ في حياتِهم القوميَّةِ والاجتماعيَّة (عاموس 21:5-24؛ إشعياء 27:1؛ ميخا 8:6). وعبّر الأنبياءُ وغيرُهم من الرجال المُوحى لهم عن إعلان الله في الطبيعة (إشعياء 40؛ 5:42؛ عاموس 8:5)، وكان يُنظَرُ إلى التاريخِ على أنه ساحةُ نشاطِهِ (التثنية 28؛ القضاة 2؛ عاموس 14:5؛ دانيال 2).

 

ينطبقُ الشيءُ نفسُهُ على يسوع. فلولا الإنجيليّونَ الذين سجَّلوا القِصَّة لَما عرَفْنا ما قاله وما فعله، ولولا تفسيرُ كاتبي الكتاب المُقدَّس عن يسوع لَما عرَفْنا أهميَّتَه. لفتَ يسوعُ نفسُه الانتباهَ إلى الطريقةِ التي تنبَّأَ بها الأنبياءُ عن مجيئِه حتَّى تُفهَمَ حياتُه في ضوء رسالتهم (متَّى 17:5؛ لوقا 44:24). ونقل أتباعُه النقطةَ نفسَها إلى مستوىً أبعد إذ أدركوا أنّ أهميَّةَ يسوع تمثَّلتْ في كونه تحقيقَ الرسالةِ النبويَّة. ولكنهم استطاعوا قبلَ كُلّ شيءٍ النظرَ في حياتِهِ الأرضيَّةِ في ضوءِ قيامتِهِ واختبارِهِم المسيحيّ، وبالتالي النظرَ في ذلك بطريقةٍ لم تكنْ مُمكنةً في وقتٍ سابق. كان الأمر يتطلَّبُ معرفةَ يسوعَ المُقام والروحِ القُدُس لوضعِ حياةِ يسوع على الأرضِ في سياقِها الكامل.

 

يعني هذا أنّ فهمَنا لأحداثٍ مُعيَّنة بأنها أحداثٌ مرتبطةٌ بالوحي يعتمدُ على تفسيرِ هذه الأحداث بواسطةِ أشخاصٍ أوحى الله لهم لإدراك أهميَّتِها والتعليقِ عليها. وبهذه الطريقة، يمكنُ للأحداثِ الأصليَّةِ المرتبطةِ بالوحي أنْ تكشِفَ عن الله للأجيال اللاحقة التي لم تشاركْ فيها بما في ذلك جيلُنا، وفي الوقتِ نفسِه يكون "التفسيرُ" المُوحى به متوفّراً لنا أيضاً.

 

وهكذا نجدُ أنّ الإعلانَ تمّ في الأحداثِ وأيضاً في نقلِ أهميَّةِ تلك الأحداث إلى كاتبي الكتاب المُقدَّس. وليس الإعلانُ مسألةَ أحداثٍ أو كلماتٍ، ولكنه مزيجٌ من الاثنين بحيثُ لا يكتملُ أحدُهما دون الآخر. من الواضح أنّ تفسيرَ الأحداث التي لم تحدثْ قط ليست له قوَّةٌ مرتبطةٌ بالوحي. ولكن لا توجدُ فائدةٌ مماثلة لمُجرَّد سرد الأحداث الذي لا يُظهِر أنها مرتبطةٌ بالوحي. الكتاب المُقدَّس سجلُّ تاريخيّ وتفسيرٌ توضيحيّ منسوجٌ في كيانٍ واحد، وبسبب هذه الشخصيَّةِ المزدوجةِ فإنه يُشكِّلُ إعلانَ اللهِ لنا.

 

في ضوء هذه المكانةِ المُهمَّة التي يشغلُها الكتابُ المُقدَّس كوسيلةٍ للإعلان الإلهيّ، ينبغي الآن أنْ نفحصَ طبيعتَهُ بمزيدٍ من التفصيل.

 

وحيُ الكتاب المُقدَّس (2 تيموثاوس 14:3-17)

يتكوَّن الكتابُ المُقدَّس من جزئين. لدينا في الجزء الأوَّل سجلُّ الحلقةِ الأولى الكبيرة من الإعلان، أيْ تعاملاتِ الله مع إسرائيل. قَبِلَ الشعبُ اليهوديّ العهدَ القديم بحلول زمانِ يسوع كمجموعةٍ من الوثائق السلطويَّة مع بعضٍ من الشكِّ حول مكانةِ واحدٍ أو اثنين من أسفار الأنبياء الصغار، ولكنَّ العهد القديم كان موجوداً إلى حدٍّ كبير في شكله الحاليّ. قَبِلَ المسيحيّون الأوائل هذه المجموعةَ من الأسفار قبولاً طبيعيَّاً رغم أهمّيةِ الإشارة إلى أنهم لم يقبلوا ما ظهرَ من تقاليدَ غيرِ مكتوبةٍ مع أنّ بعضَ اليهود رأوها مُهمَّةً بقدرِ أهميَّةِ العهد القديم. أضافوا للعهد القديم جزءاً ثانياً، وهو سجلّاتُ إعلان الله في يسوع وحياة الكنيسة. لم تحدثْ عمليَّةُ تشكيلِ الكتاب المُقدَّس هذه في وقتٍ واحد ولكن على مدى فترةٍ طويلة من الزمن. وعلى الرغم من أنّ المُهمَّةَ اكتملَتْ من حيثُ المبدأ بحلول نهايةِ القرن الثاني، إلَّا أننا لا نجد حتَّى سنة 367 بعد الميلاد أوَّلَ قائمةٍ موثوقٌ بها للسبعة والعشرين سفراً للعهد الجديد التي توجد في نُسَخِنا اليوم من الكتاب المُقدَّس. أمَّا عمليَّة تشكيل "القانون الكنسيّ" (أو القائمة الموثوق بها) لأسفار الكتاب المُقدَّس فلم تكن إلى حدٍّ كبيرٍ تداولاً للسلطان من جانب الكنيسة على هذه الأسفار بقدرِ ما كانت اعترافاً بالسلطان الذي تحظى به بطبيعتها.

 

ما الذي كانتِ الكنيسةُ تفعلُه بالضبط عندما اعترفَتْ بسلطان هذه الأسفار؟ بقدر ما كان الأمر يتعلَّقُ بالعهد القديم، كان يتبع ببساطةٍ مثالَ يسوعَ نفسه وأتباعِهِ الذين قَبِلوا هذه الكتابات باعتبارها أسفاراً مُقدَّسة. وفي حالة العهد الجديد، فإن الكنيسة قَبِلتْ تلك الأسفارَ التي كانت تستخدمها كنائسُ لا جدالَ في استقامةِ رأيها من الأيَّام الأولى للمسيحيَّة، والتي كتبها الرُسُل أو الرجالُ الذين لازَموهم (مثل مرقس ولوقا). لم يكن هذا الاختبارُ شكليَّاً بسبب وجود قدرٍ كبيرٍ من الأدب المسيحيّ في ذلك الوقت، وكان بعضه يتضمَّن محتوىً روحيَّاً سامياً، وكان بعضه خاطئاً في جوهره وصحيحاً في مظهره، مع تأكيداتٍ بالعودة إلى الأيَّام الأولى للكنيسة، ووَجبَ على الكنيسة اللجوءُ إلى الحُكم الدقيق في تحديد الأسفار التي استوفَتْ بالفعل شروطَ القانونيَّة كأسفارٍ مُقدَّسة.

 

تكمن قيمةُ هذه الأسفار في حقيقة أنها سجَّلتْ أعمالَ إعلانِ الله العظيمة في تاريخ إسرائيل وفي خدمة يسوع. واحتوى هذا السجلُّ في الوقت نفسه على التفسير المُوحى به لهذه الأحداث التي يمكن من خلالها فهمُ معناها الحقيقيّ. الكتاب المُقدَّس بالطبع كتابٌ بشريّ كتبَهُ بشرٌ، ويحملُ علاماتِ الشخصيَّات المختلفة التي ساهمت في تكوينه. إذا كان يُخبِرُنا عن الكيفيَّة التي كشفَ بها الله عن نفسه لهؤلاء الناس، فإنه يُسجِّلُ أيضاً كيفيَّةَ استجابتهم لإعلان الله – والحكاية هي أحياناً حكايةُ فشلٍ ذريع في فهم إعلان الله وطاعته.

 

الكتاب المُقدَّس هو، في الوقت نفسه، عملُ الأشخاص الذين أُعلِنتْ لهم كلمةُ الله بطُرقٍ مُتنوِّعة. كان الكُتَّاب يكتفون أحياناً بتسجيل الأحداث التاريخيَّة مستخدمين وسائلَ المعرفة العاديَّة لاكتشافِ ما قد حدث. وكانوا في بعض الأحيان يُسجِّلون الرسائل التي تلقَّاها الأنبياءُ والرُسُلُ من الله. وكانوا أحياناً يتأمَّلون تأمُّلاً عميقاً في أذهانهم في أمور الله، واستخدم الله أفكارَهم لإيصال رسالته إليهم. وقادهُمُ اللهُ في بعض الأحيان لكتابةِ كلماتٍ تحملُ معنىً أعمق ممَّا كانوا على علمٍ به (1 بطرس 10:1-12؛ راجع دانيال 8:12-9). ومع ذلك، على الرغم من أنّ الكتاب المُقدَّس هو مجموعةٌ من الأسفار البشريَّة، إلَّا أنّ كتاباته المُتنوِّعة تُؤكِّد على أنها ذاتُ أصلٍ إلهيّ. واستطاع الكُتَّاب اللاحقون عندما نظروا إلى الماضي إلى الكتابات السابقة بأن يصفوها بأنها موحىً بها من الله أو أنفاسُهُ حسب ترجمةٍ ثانية (2 تيموثاوس 16:3) وتمكّنوا من الإقرارِ بكون كُتَّابها أشخاصاً مسوقين من الرّوح القُدُس (2 بطرس 20:1-21).

 

يستند هذا الوصفُ للكتاب المُقدَّس، باعتباره كتاباً مُنتَجاً بإرشادِ الوحي الإلهيّ، على شهادة كُتَّابه. ما سببُ قبولِنا له كوصفٍ صادقٍ بالمقارنة مثلاً مع ادّعاءاتِ كتابِ المورمون أو الكتب المُقدَّسة للأديان الأخرى؟ من الواضح أنه لا يمكنُ محاولةُ الإثبات العلميّ لوحي الكتاب المُقدَّس. فالإيمان بالله ليس مسألةَ قبولٍ لإثباتٍ علميّ أو فلسفيّ لوجوده؛ وكما لاحظنا بالفعل، لا توجد مثلُ هذه البراهين المقبولة على النطاق العالميّ. نحن نؤمن بالله لأنّ تفسير اختبارها من حيثُ وجود الله هو التفسير الأكثر إرضاءً لجميع الأدلَّة. قد يتجاوز هذا الاعتقاد الأدلَّة (كما هو الحال مع العديد من الفرضيَّات في مجالات المعرفة الأخرى) وقد يتعارض حتَّى مع بعض الأدلَّة (مثل وجود الألم والمعاناة)؛ ومع ذلك، على الرغم من وجود عوامل من الواضح أنها تصارعُ للوقوفِ ضدّ الإيمانِ بالله، فإن المؤمن مُهيَّأٌ للتأكيد على تعبير "من الواضح"، لأنه يرى في تقديره رجحانَ كفَّة الدليل على الإيمان.

 

ينتج عن هذا شيئان. الشيء الأوَّل هو أنه إذا كان قبولُ وجودِ الله مسألةَ إيمانٍ أكثر من كونه مسألةَ دليلٍ جامد، فإن قبولَ الكتاب المُقدَّس باعتباره وحيَ الله ينبغي أن يكون أيضاً مسألةَ إيمانٍ. لكن هذا لا يعني أنّ قبول الكتاب المُقدَّس فعلٌ غير عقلانيٍّ دون أيّ أساسٍ في الأدلَّة بقدرٍ أكبر من أنّ الإيمان بالله غير عقلانيٍّ وغير مُبَّررٍ. النقطة الثانية هي أنّ قبولَ الكتاب المُقدَّس باعتباره إعلانَ الله ينبغي أن يتلاءمَ مع ما نعرفه عن الله حسبما أعلنَ عن نفسه. لا يشكّ المسيحيّ في أنّ الكتاب المُقدَّس فيه سجلٌّ عن الكيفيَّة التي أظهر بها نفسَه في يسوع المسيح. تكمن المشكلةُ في ما إذا كان من المنطقيِّ التأكيدُ على أنّ الله الذي أظهر نفسَه في يسوع قد أظهر نفسَه أيضاً في إعلانٍ مكتوب. هل الكتاب المُقدَّس نفسُه إعلانٌ مُوحى به من الله أم أنه مُجرَّد سجّلٍ بشريّ وتفسيرٍ لأعمال الإعلان التاريخيَّة؟

 

غالباً ما ظهرَ جدالٌ بهذه الطريقة مفادُهُ أنّ البياناتِ المكتوبةَ يمكنها أن تُخبِرَنا عن أعمال الإعلان، ولكنّها لا يمكن أن تكونَ هي نفسُها إعلاناً، لأنّ الإعلان لا يمكن أن يحدثَ إلَّا من خلال الأحداث والأشخاص. وبالتالي يكون الكتاب المُقدَّس كتاباً عن الإعلان، ولكنه ليس في حدّ ذاته إعلاناً عن الله. ومع ذلك، لا تُنصِفُ هذه الحُجَّةُ شخصيَّةَ الله الذي أظهر نفسه في يسوع إذْ أظهر نفسه كشخصٍ. لكنَّ التواصلَ الشخصيّ يحدثُ عن طريق الكلمات لدرجةِ أنّ المرءَ يكاد يُعرِّفُ البشرَ  بأنّهم كائناتٌ قادرةٌ على التواصل عن طريق اللغة. وبالتالي، تحدَّثَ الله إلى الأنبياء بما بدا لهم ككلماتٍ (على سبيل المثال: التثنية 1:4-5؛ 2 صموئيل 2:23؛ إرميا 9:1)؛ لا شكّ أنّ "كلمات" الله اللامحدود المتسامي تتجاوزُ الفهمَ المحدود للإنسان، لكننا قد نقول إنّ الله هيَّأ أشكالَ التعبير عنه لِما يمكننا أن نتلقَّاه. نُؤكِّد على أنه عندما أظهر الله نفسَه في يسوع، اتَّخذ الإعلانُ إلى حدٍّ كبيرٍ شكلَ كلماتٍ. من المُؤكَّد أنّ كاتبي الأناجيلِ الأربعةِ كانوا مُهتمّين بما قاله يسوع بقدر اهتمامهم بما فعله. اعتبر يوحنَّا أنّ ما قاله يسوع كان يحملُ طابعَ كلامِ الله (يوحنَّا 16:7-17؛ 38:8؛ 24:14؛ 8:17، 14). وعندما حاولتِ الكنيسةُ الأولى إعلانَ الله للناس الذين لم يقابلوا يسوع فعلتْ ذلك بالوعظ. الكلماتُ شكلٌ لا غنى عنه للتواصل الإلهيّ (راجع 1 كورنثوس 13:2). وبالتالي ينتجُ عن طبيعة الله الشخصيَّة أن يعلنَ عن نفسه في شكلٍ لفظيّ وكذلك في الأحداث والأشخاص، وبالتالي لا يوجد ما يثيرُ الدهشةَ في التأكيد المسيحيّ بأنّ الكتاب المُقدَّس هو كلمةُ الله في شكلٍ مكتوب. لا يمكن، دونَ سجلٍّ مكتوب، فهمُ الأحداث الأصليَّة التي أظهر بها الله نفسه بأهميَّتها الكاملة، أو أن تكون لها أيَّةُ قيمةٍ مرتبطةٍ بالوحي للأجيال اللاحقة التي لم تختبرْها.

 

أشار بعضُ الناس إلى أنّ الكتاب المُقدَّس نفسه، بالطريقة التي كُتِبَ بها في الأصل، ليس كلمةَ الله، ولكن من الممكن أن يصبحَ كلمةَ الله عندما يستخدمُهُ روحُ الله للتحدُّث في مواقفَ جديدةٍ لقُرَّاءٍ جُدُد. هذهِ النظرةُ صحيحةٌ في ما تُؤكِّده تأكيداً إيجابيَّاً، أي أنّ الكتاب المُقدَّس يبقى خطاباً ميِّتاً للقارئ ما لمْ يعملِ الروحُ فيه ومن خلاله لإنارة عقل القارئ. ولكنّها نظرةٌ كاذبة في ما تُنكِره، لأنّ أحدَ الأسباب هو أنه من المستحيل أن نرى كيف يمكن أن يصبحَ الكتابُ المُقدَّس كلمةَ الله إذا لم يكن بالفعل كلمة الله. بالإضافة إلى ذلك، من الصعب أن نرى السببَ الذي يجعل الكتاب المُقدَّس وحدَه لديه هذه الخاصيَّة بأن يصبح كلمةَ الله للقارئ. وفوق هذا كُلّه، لا تتوافقُ هذه النظرة مع موقف يسوع وكُتَّاب العهد الجديد عن أسفار العهد القديم التي قَبِلوها بوضوحٍ كإعلانٍ إلهيّ.

 

يجدُ الناسُ أحياناً صعوبةً في تصديق أنّ أحدَ الأسفار التي كتبَها إنسانٌ هو موحىً به من روحِ الله. ينبغي علينا أنْ نرفضَ بالتأكيد وجهةَ النظر القائلة بأنّ كُتَّابَ الكتابِ المُقدَّس لم يكونوا سوى أدواتٍ سلبيَّة، مثل آلاتٍ كاتبة، استخدمَها اللهُ لتسجيل ما أراده. وقد ظهرَ من حينٍ لآخر مُفكِّرون (مثل الكاتب اليهوديّ فيلون) فكَّروا في الكتاب المُقدَّس بهذه الطريقة، ولكن من الآمن القولُ بأنّ وجهة النظر هذه لاقَتِ الرفضَ بشكلٍ عامّ لأنها لا تُنصِفُ الطريقةَ التي يُعبِّر بها كُتَّابُ الكتابِ المُقدَّس. لن توجد طريقةٌ أصحّ لقولٍ هذا أكثرَ من القول بأنّ يسوع تصرَّفَ مثلَ جهازِ تسجيلٍ إلهيّ عندما كان يتكلَّم وينطقُ برسائلَ مُسجَّلةٍ مُسبَقاً. يُؤكِّد كُتَّابُ الكتاب المُقدَّس في الواقع على أنّ كلمة الله وَصَلَتْهُمْ بطُرقٍ مختلفة، ولكن في المعتاد من خلال الممارسة الطبيعيَّة لموهبتيّ العقل والمنطق اللتين منحَهُما الله لهم.

 

يوجد شيءٌ من المفارقة هنا في أننا يمكن أنْ نعتبرَ الكتاب المُقدَّس كتاباً بشريَّاً وفي الوقت نفسِه كتاباً إلهيَّاً. لكنّ المفارقةَ ليست تصريحاً مُتناقِضاً وإنَّما بالأحرى تعبيرٌ عن تصريحين يبدو أنهما متناقضان ولكنهما يحتويان على حقائق تكميليَّة. ونرى هذا النوع نفسَه من التناقض في الاعتقاد بأنّ يسوع كان رجلاً عاديَّاً وفي الوقت نفسه كان ابنَ الله. يؤمن المسيحيّون إيماناً جازماً بهذا على الرغم من أنّ أحداً لم يتمكَّن من تفسيره قطّ، ومن أنه لا يمكن في الواقع تفسيره على مستوى الفهم البشريّ نظراً لاهتمامه بكيفيَّة الارتباط بين ما هو إلهيٌّ وما هو بشريٌّ. يمكننا استخدام هذا التشبيه لمساعدتنا على فهم طبيعة الكتاب المُقدَّس بشرط ألَّا نسقط في عبادة الكتاب المُقدَّس، أي في خطأ اعتبار الكتاب المُقدَّس نوعاً من تجسُّد الروح القُدُس وبالتالي عبادتِهِ. صحيحٌ أنّ بعض علماء اللاهوت قد اعترضوا على استخدام هذا التشبيه معتبرين أنّ وحي الكتاب المُقدَّس لا يشبه تجسُّدَ ابنِ الله، وهم بالطبع مُحقّون في هذا. ففي التجسُّد صار الأقنوم الثاني من الثالوث إنساناً ولكن لا يُعقَل لأقنومٍ إلهيّ أن يصير الكتاب المُقدَّس. لكن هذه ليست نقطة التشبيه، فهي تُؤكِّد بالأحرى على أنه مثلما استطاع الله أن يتَّحدَ مع الإنسان في التجسُّد فإنه استطاع أن يُوحِّد كلمتَهُ بكلماتِ بشرٍ في الكتاب المُقدَّس.

 

تمتدّ عمليَّةُ الوحي إلى الكتاب المُقدَّس ككُلٍّ. عندما قَبِلَتِ الكنيسةُ قانونيَّةَ الكتاب المُقدَّس كانت تُنكِرُ صراحةً وحيَ الكتب الأخرى التي تناولت تاريخَ إسرائيل والكنيسةِ الأولى، لكنّها كانت تُؤكِّد بالمقدار نفسه على قناعتها بأنّ جميع الأسفار المقبولة كانت مُوحىً بها من الروح القُدُس. لا يعني هذا أنّ جميع الأسفار تُظهِر الله بالتركيز نفسه أو بالوضوح نفسه. من الواضح أنّ إنجيل يوحنَّا أو رسالة رومية يتضمَّنان مقداراً من الرسالة الإلهيَّة أكبرَ من سفر الجامعة أو نشيدِ الأنشاد لسليمان. لكنّ الأسفارَ اللاحقة تنقل أشياءَ مُهمَّة عن الإعلان المركزيّ لله في يسوع حتَّى إذا كانت خارجيَّة. يجب ألَّا ننسى أنّ أسفار الكتاب المُقدَّس المُتنوِّعة كانت مكتوبةً لأناسٍ من مختلف الأعمار والحالات، وأنّ الفقرة التي لا تتحدَّث إلينا الآن ربّما تحملُ رسالةً ذاتَ صلةٍ قريبة جدَّاً بأشخاصٍ آخرين في ظروفٍ مختلفة. وردَ في خطابٍ من أحد المُبشِّرين منذ ثلاث أو أربع سنواتٍ: "الشكر لله على الطريقة التي يساعد بها إنجيلُ مرقس الناسَ هنا على رؤية أنّ المسيح قهرَ قوَّةَ الشياطين". لم يكن ذلك درساً نحتاجُهُ في هذا البلد في ذلك الوقت – على الرغم من أنّ قصص سُكنى الشياطين في الناس وطَرْدِ الأرواحِ الشرِّيرة قد أثبتَتْ ارتباطَها هنا أيضاً – ولكنها دون شكٍّ كانت وما زالت فعلاً وثيقةَ الصلة بالناس في الدولةِ الأفريقيَّة المعنيَّة.

 

موثوقيَّةُ الكتاب المُقدَّس وعصمتُه (لوقا 1:1-4)

 

إذا قلنا إنّ الكتاب المُقدَّس ككُلٍّ هو كلمةُ الله المُوحى بها، فإنّ التضمينَ الواضح هو أنه إعلانٌ موثوق به عن "الله". والكلمة التقليديَّة المرادفة لخاصيَّة الكتاب المُقدَّس هذه هي "العصمة"، أي خاصيَّة عدم تضليل الناس. يستند التأكيد على كون الكتاب المُقدَّس موثوقاً به تماماً على موقفِ يسوع من العهد القديم وشهادةِ الكتاب المُقدَّس عن طبيعته الخاصَّة (متَّى 17:5-18؛ مرقس 1:7-13؛ 35:12-37؛ يوحنَّا 39:5-47؛ 34:10-36؛ 26:14؛ 13:16-15؛ 1 كورنثوس 37:14-38؛ أفسس 3:3؛ الرؤيا 6:22)؛ فهو نتيجةٌ للاعتقاد بأنّ الكتاب المُقدَّس مُوحىً به من الله. وبالتالي فإنّ الاعتقادَ بموثوقيَّة الكتاب المُقدَّس، مثلُ الاعتقادِ بالوحي، مسألةُ إيمانٍ وليسَ مسألة دليلٍ، ولكن في الوقت نفسِه يمكن اختبارُ هذا الاعتقاد من خلال الدراسةِ التاريخيَّة بأساليبَ عاديَّة.

 

كثيراً ما يُقالُ إنّ هذا الاعتقاد لم يعدْ مقبولاً من المسيحيّين العصريَّين، وإنه لا يمكننا أنْ نؤمنَ بموثوقيَّة الكتاب المُقدَّس بسبب العديد من الأخطاء والتناقضات المزعومة التي يتضمَّنُها. وبالتالي، ينبغي أن نُصرِّحَ بالنقاط التالية لتوضيح هذا الاعتقاد.

 

أوَّلاً، تظهرُ صعوباتٌ كثيرة عندَ الإخفاقِ في تفسير الكتاب المُقدَّس تفسيراً صحيحاً. فهوَ إعلانٌ كاملٌ وموثوقٌ به عن الله. ليس المقصودُ من الكتاب المُقدَّس أن يكون موسوعةً تفصيليَّة بالمعلومات الواقعيَّة حول جميع الموضوعات؛ فهو لا يُقِرُّ بتقديم إجاباتٍ عن جميع الأسئلة التي قد نرغبُ في طرحها بل بتدريبِنا وتعليمِنا في العقيدةِ والتقوى المسيحيّتين.

 

ثانياً، الكتاب المُقدَّس مكتوبٌ بلغةٍ شائعة وليس بالمصطلحاتِ العلميَّة والدقَّةِ السائدة في القرن الحادي والعشرين. على سبيل المثال، لا يدَّعي سفرُ التكوين أنه يُقدِّمُ علمَ كونيَّاتٍ بطريقةٍ علميَّة. وفي الواقع سوف يكون من الغباء توقُّعُ هذا؛ ولو كان هذا قد تحقَّق لما كان مفهوماً للقُرَّاء الأصليّين للكتاب المُقدَّس، كما أنه لن يكونَ مفهوماً بالنسبة لمعظمنا الذين لم يتلقَّوا تدريباً علميَّاً.

 

ثالثاً، يُسجِّل الكتاب المُقدَّس إعلاناً مُتطوِّراً لله على مدى قرونٍ عديدةٍ للعديد من الناس المختلفين. ينبغي تفسيرُ بياناتِه الفرديَّة في ضوء الإعلان ككُلٍّ، وينبغي أن يرتبطَ التعليمُ المُبكِّرُ بالتعليم اللاحق. لا يمكن أن يستندَ الاعتقادُ إلى بياناتٍ فرديَّةٍ مأخوذةٍ من سياقِها الكتابيّ الإجماليّ. كانت مُتطلَّباتُ الذبيحة في العهد القديم صالحةً بقدر تفاصيلها، وكانت صحيحةً في زمانها، لكنها لم تعدْ تعبيراً صحيحاً عن مشيئةِ الله للمسيحيّين. فحتَّى إجراءٌ مثل العبوديَّة، التي تُعتبَر من المُسلَّماتِ كجزءٍ من النظام الاجتماعيّ في العهد الجديد، قد لا يعود مقبولاً اليوم في ضوءِ التعليم الأخلاقيّ العامّ للعهد الجديد نفسه.

 

رابعاً، قدَّم علمُ الآثار إنجازاً كبيراً للتأكيد على دقّة الحقّ التاريخيّ للرواية الكتابيَّة، على الرغم من أنه في طبيعة الأشياء توجد العديدُ من البيانات التي لا يمكن توقُّعُ مثلِ هذا التأكيد عليها. عموماً، من الممكن أن يبدو أنّ المخطّط التمهيديّ الأساسيّ للتاريخ الكتابيّ يمكن الاعتماد عليه على الرغم من وجود العديد من المواضع التي لا يمكننا "إثباتُ" وقوعِ الأحداث بحسب الطريقة التي سُجِّلتْ بها، لأنّ الأدلَّةَ الداعمة المطلوبة غيرُ موجودةٍ. ينبغي أيضاً الاعتراف بأنّ الرواياتِ الكتابيَّة تثير في بعض المواضع صعوباتٍ تاريخيَّة لا توجد لها إجاباتٌ مُقنِعة في الوقت الحاضر. قد يكون أكثرُ المساراتِ حكمةً في مثلِ هذه الحالات هو تعليقُ الحُكم لأنّ الاكتشافاتِ والمناقشاتِ الجديدةَ قد تُغيِّرُ الوضع.

 

خامساً، يرجع العديدُ من الصعوبات المزعومة في الكتاب المُقدَّس إلى إخفاقنا في تفسيرها تفسيراً صحيحاً. القاعدة الأساسيَّة للتفسير هي أنّ العباراتِ الواردة في الكتاب المُقدَّس ينبغي فهمُها وفقاً للطريقة التي قَصَدَ بها المُؤلِّفون الأصليّون فهمَها. من الحماقة التفكيرُ في البيانات المجازيَّة أو الشِعريَّة على أنها كانت تُسجِّلُ حقائقَ حَرفيَّة. كما أنّ العباراتِ التي قُصِدَ بها أن تُقرأ كأدبٍ قَصَصيّ ينبغي ألّا تُقرأَ وكأنّها رواياتٌ تاريخيَّة. من السهل على الأشخاص الذين لديهم طريقةُ تفكيرٍ حَرفيَّة الاعتقادُ بأنّ الحقَّ كُلّه ينبغي التعبيرُ عنه في بياناتٍ حَرْفيَّةٍ ناسين أنّ الحقَّ يمكن التعبيرُ عنه بالمجاز والرمزِ، وأنّ بعضَ الحقائق لا يمكن التعبيرُ عنها إلَّا بهذه الطريقة. لا يمكننا، على سبيل المثال، وصفُ بدايةِ الكون أو نهايته باللغة الحَرفيَّة، ويجب ألَّا نسيءَ فهمَ اللغةِ الرمزيَّة المُستخدَمة في الكتاب المُقدَّس بهذا الخصوص وألّا نفهمَها حَرفيَّاً.

 

قد تساعد هذه الاعتبارات على إظهار إمكانيّة الدفاع عن الاعتقاد بوحي الكتاب المُقدَّس وموثوقيَّته ضدّ الحُججِ التي جرتِ العادةُ على تقديمِها ضدّه. توجد بالطبع صعوباتٌ حول العقيدة مثلما توجد صعوباتٌ حول الاعتقاد بمَحبَّة الله في كونٍ يحدث فيه الشرّ والألم، لكنَّ هذه الصعوباتِ ليستْ كافيةً للإطاحةِ بعقيدةٍ تستندُ إلى تعليمِ يسوع ورُسُله.

 

يجب تقديمُ نقطتين إضافيّتين. النقطة الأولى، بما أنّ الكتابَ المُقدَّس كتابٌ بشريّ وإلهيّ في الوقت نفسه، ينبغي أخذ كلا هذين الجانبين في الاعتبار عند دراسته. وبما أنه قد أنتجه كُتَّابٌ بشريّون في أحوالٍ تاريخيَّة مُعيَّنة، فمن الملائم والضررويّ استخدامُ جميع التقنيّات المعتادة للدراسة التاريخيَّة والأدبيَّة لوضع الأسفار المُتنوِّعة في بيئاتها التاريخيَّة، واكتشافُ ظروف تدوينها، وفهمُ محتوياتها. رفض المسيحيّون هذه الدراسة في بعض الأحيان على أساس أنها أدَّت إلى التعامل مع الكتاب المُقدَّس كما لو كان مُجرَّدَ كتابٍ بشريٍّ، وأدَّت إلى إنكار حقّ الكتاب المُقدَّس. ومع ذلك، لا يوجد أيّ خطأٍ في أساليب الدراسة، بشرط ألَّا يُبْطَلَ استخدامُها بالافتراضات الزائفة التي تُشكِّك في نشاط الله في إظهار نفسِه في الأحداثِ المُسجَّلة في الكتاب المُقدَّس وفي بيانات الكتاب المُقدَّس نفسه. إذا كُنَّا نؤمن بأنّ الكتاب المُقدَّس هو كلمةُ الله فعلينا ألَّا نخافَ من أنّ الدراسة النقديَّة سوف تُدحِّضه، على الرغم من أنّ استنتاجاتِ بعض العلماء الكتابيّين قد تبدو متناقضةً مع حقّه.

 

يُلفِت هذا انتباهَنا إلى الجانب الثاني من الكتاب المُقدَّس الذي ينبغي عدمُ نسيانِهِ في الدراسة. ينبغي قراءةُ الكتاب المُقدَّس ودراستُهُ ككلمة الله. فاللهُ الذي أوحى للأنبياء والرُسُل والقدّيسين لكتابة الكتاب المُقدَّس لا يزال يتكلَّم من خلاله، لكيْ نتواصلَ معه تواصلاً حيَّاً وننالَ الحياة الأبديَّة. عندما نقرأ الكتاب المُقدَّس ينبغي أن نُصغيَ لسماعِ كلمته، ولذا ينبغي علينا أنْ نُصلِّيَ طالبين منَ الروح الذي أوحى للكُتَّابِ حتّى ينيرَ القُرَّاء ليُدرِكوا ما يقوله الله لهم ويقبلوه.

 

النقطة الثانية هي أنّ الكتاب المُقدَّس هو سلطتُنا النهائيَّةُ والأسمى في العقيدة والممارسة المسيحيّتين. فهو يحتوي على سِجّلِ إعلانِ يسوعَ المسيح، الذي لا يمكنُ إضافةُ أيِّ شيءٍ له، وهو الكتاب الذي قَبِلَتْهُ الكنيسةُ باعتباره كتاباً قانونيَّاً وسُلْطتَها النهائيَّة في جميعِ مسائل الإيمان. الغرض من التفسير واللاهوت الكتابيّين ليس إنتاجَ حقائقَ جديدةٍ غيرِ موجودةٍ في الكتاب المُقدَّس بل تسليطَ الضوء على المعنى الكامل لما هو موجودٌ بالفعل في الكتاب المُقدَّس. إنه جزءٌ أساسيّ من الاعتقاد البروتستانتيّ بأنّ الكنيسة لا يمكنها إضافة أيّ شيءٍ إلى الكتاب المُقدَّس، وبأنّ جميعَ عقائِدِها ينبغي اختبارُها بمقدار أمانتها للكتاب المُقدَّس.

 

توجد بعض الأسئلةِ والمشكلاتِ التي لا يردُ في الكتاب المُقدَّس شيءٌ مُحدَّد عنها، ومُهمَّةُ المسيحيّين في مثل هذه المواقف هي البحث عن حلولٍ تكون كتابيَّة في طبيعتها ومع ذلك قد تتخطَّى تعليم الكتاب المُقدَّس. يؤمن بعض المسيحيّين (وليس كُلُّهم) على سبيل المثال بأنه مع وجود المشكلات المُعاصِرة الهائلة كإدمان الكحول والحوادث بسبب شرب المُسكِرات يحقُّ لهم تخطّي الوصايا المُحدَّدة في الكتاب المُقدَّس وإجراء تطبيقهم الخاصّ لمبدأ عدم التسبُّب في عثراتٍ (رومية 13:14، 21) بالامتناع عن الكحول. تنشأ مشاكل أخرى مع ممارساتٍ مثل الإجهاض ومنع الحمل والقتل الرحيم؛ فهنا أثارتِ التقنيّاتُ والمعرفة الحديثة مشاكلَ كانت غيرَ معروفةٍ في العصور الكتابيَّة، ويتحمَّلُ المسيحيّون مسؤوليَّةَ اكتشافِ مشيئة الله في مثل هذه المسائل على أساس التعليم الكتابيّ. قد لا تكون هذه المهام سهلةً، ولا يتوصَّل المسيحيّون دائماً إلى الاستنتاجات نفسها بخصوص مشاكل مُعيَّنة. فالشيء المُهمّ هو البحث عن حلولٍ تُظهِر الطاعةَ لمشيئة الله المُعلَنة. على الرغم من افتقارِ الكتاب المُقدَّس للتعليم المباشر حول مثل هذه المشاكل، إلّا أنه يحتوي على إعلانٍ كافٍ بمشيئة الله وشخصيَّته لتمكين المسيحيّين من معرفة كيفيَّةِ الإيمان والتصرُّف في العصر الحديث.

 

أسئلةٌ للدراسة والمناقشة

  1. "المعرفة واليقين في الدين لا يأتيان من الحُجَّة الفكريَّة بل من القناعة الداخليَّة". هل هذا صحيحٌ أم خطأ؟ ما مخاطر كليهما؟
  2. كيف تُوازِنُ بين الاختبار والعقل وإعلان الله عن نفسه؟ هذا سؤالٌ حاسم، لأنه ما لم نتَّفقْ على كيفيَّة معرفتنا لله سوف نعرفه جميعاً معرفةً مختلفة وفقاً لعقلنا واختباراتنا. ولذلك يُرجى تخصيصُ بعض الوقت والتحدُّثُ عن كيفيَّة عمل هذه العناصر الثلاثة معاً (أو عدم عملها معاً).
  3. إذا كنت تحاول إقناعَ شخصٍ غير مسيحيٍّ بوجود الله، فمن أين ستبدأ؟
  4. هل يُزعِجك أنك لا تستطيعُ إثبات وجود الله؟
  5. هل يمكنك تتبُّعُ أحدِ أنماطِ تعاملِ الله مع إسرائيل من المزمور 78؟ هل يوجد أيُّ دليلٍ على أنّ الله لا يزال يعمل وفقَ المبادئ نفسها تجاه شعوب العالم؟
  6. لماذا لا يكفينا الإعلان عن الله في المسيح (دون تفسيرٍ)؟
  7. ما الفرق بين أن تتباحثَ الكنيسةُ في الأسفار القانونيَّة وأن تعترف بها؟
  8. كيف تشعر تجاه حُجَّةِ مارشال بأننا لا نستطيع إثباتَ أنّ الكتاب المُقدَّس من الله، ولكن الإيمان بأنّ كونه من الله هو التفسيرُ الأكثرُ إرضاءً من بين جميع الأدلَّة؟
  9. ناقشْ أهميَّةَ الطبيعةِ البشريَّة/الإلهيَّة للكتاب المُقدَّس باعتبارها مفارقةً وليست تناقضاً.
  10. ما الاعتراضاتُ التي قُدِّمَتْ ضدّ عصمةِ الكتاب المُقدَّس؟ ناقشْ ما يعنيه هذا المصطلح وما إذا كان يمكن الدفاعُ عن استخدامه.
  11. ما المبادئ التي يجب أن نتبعَها في تفسير الكتاب المُقدَّس كمصدرٍ للعقيدة المسيحيَّة؟
  12. من الشائع في الكنيسة تصنُّعُ التأكيد على أنّ "الكتاب المُقدَّس هو سلطتُنا النهائيَّة والأسمى في العقيدة والممارسة المسيحيّتين". ما جميع الطُرق التي يتعارضُ بها سلوكُ الكنيسة مع هذا التأكيد؟

    2

     

    معرفتنا بالله

     

    تُخبِرنا العقيدةُ المسيحيَّة بما يؤمنُ به المسيحيّون عنِ الله. ولكن قبل أنْ نتمكَّنَ من مناقشة ما نؤمن به، ينبغي علينا معالجةُ السؤال الأوَّليّ حول كيفيَّةِ التوصُّلِ لمعرفةِ الله، والتعرُّفِ إلى وجودِهِ وصفاتِهِ وأفعالِه. هذا السؤال ذو أهميَّةٍ حاسمةٍ لأنَّ الاختلافاتِ بين المواقف اللاهوتيَّة المُتنوِّعة التي يعتنقُها المسيحيّون تعتمد في كثيرٍ من الأحيان على الاختلافات في طريقةِ التفكيرِ بخصوصِ الوصولِ إلى معرفةِ الله.

     

    توجد ترنيمةٌ مسيحيَّةٌ معروفة قد تقترحُ إجابةً مُحتمَلة لسؤالنا. يحتوي قرارُ الترنيمة على التأكيد المُذهِل "يسوع حيٌّ فيّ" ويُقدِّم بياناً لقيامةِ يسوع. يستفيض كاتبُ الكلمات فيطرحُ السؤال: "أتسألني كيف أعرفُ أنه حيٌّ؟" ثم يجيبُ نفسَه: "يسوع حيٌّ فيّ". كيف تعرفُ وتُثبِتُ أنّ يسوع المسيح حيٌّ اليوم؟ جواب هذا الكاتب هو أنه يمكننا الاحتكامُ إلى اختبارِ حضورِهِ في قلوبنا. وانتقالاً من ذلك توجد خطوةٌ قصيرة للاستنتاج بأننا نُسجِّلُ العقيدةَ المسيحيَّةَ من خلالِ وضعِ اختبارِنا على الورق.

     

    كُتِبَ كتابٌ قبل سنواتٍ تحتَ عنوان لاهوت الاختبار. أمَّا اليوم فهو منسيٌّ تقريباً، لكنّ عنوانَه قد يكون مُلَخَّصاً لهذا النوع من النهج. وهو يُؤكِّد على أنّ المعرفةَ واليقينَ في الدينِ لا يأتيان من الحُجَّةِ الفكريَّة بل من القناعةِ الداخليَّة. يوجد مَلمَحٌ للحقّ هنا، فقد يعرف الإنسان كُلّ شيءٍ عن المسيحيَّة في ذهنِه من خلالِ الحُجَّةِ والمنطق، ولكن ما لم يعرفْ هذا أيضاً في قلبه فإنه لن يُحدِثَ اختلافاً كبيراً في حياتِه. سوف يبقى لاهوتُهُ بارداً ومُجرَّداً، تماماً مثلما كان الحال مع جون وسلي الذي بقيَتْ معرفتُه الصحيحة بالإنجيل مُمِلَّةً وجامدة إلى أن شعر "بدفءٍ غريب" في قلبه، وأصبحَ ما يعرفه في رأسه اختباراً واقتناعاً شخصيَّين. لا يمكننا الاستغناءُ عن الاختبار المسيحيّ.

     

    ليس من المُستغرَب إذاً أن يظنَّ بعضُ الناس أنّ كتابة العقيدة المسيحيَّة تنطوي على وضعِ ما تعلَّمتَهُ من اختبارِك المسيحيّ. يعمل العلماء شيئاً كهذا على أيّ حالٍ، فهم يُجرون تجاربَهم، ويتوصَّلون بالاكتشاف الشخصيّ إلى ما يجري، ثم يصوغون نتائِجَ تجاربهم، ويُقدِّمون شرحاً لها، فالعلمُ يعتمدُ على الطريقةِ التجريبيَّة. ألا يجبُ أنْ يستمرَّ علمُ اللاهوت بالطريقةِ نفسها؟

     

    يبدو الأمر ممتازاً، لكنه لا يُجدي، فمن السهل جدَّاً أنْ نخلطَ بين الإيمان والمشاعر. وقد يتفاوتُ وعيُ الشخص بوجود الله من يومٍ لآخر، ويختلف مع تغيُّرِ الظروف. فالاختبارُ أساسٌ متحوِّلٌ جدَّاً في أمور الدين، كما أن الناسَ قد يبدأون مرَّةً أخرى في المقارنة بين اختبارِهم واختبارِ الآخرين، ويكتشفون أنّ جميعَ اختباراتهم مختلفةٌ. قد لا يشرحون حتَّى اختبارَهم في سياقٍ مرتبطٍ بالله على الإطلاق. توجد اختلافاتٌ هائلة حتَّى بين المسيحييّن في المنظور والمشاعر. وعاجلاً أم آجلاً، سوف يتوجّبُ على المرء أن يسأل: كيف أُحدِّدُ بأيّ اختبارٍ من اختباراتي أثق؟ كيف يمكنني المقارنةُ بين اختباراتِ أشخاصٍ مختلفين ومعرفةُ الصحيح منها؟ لا يمكن الإجابةُ عن هذه الأسئلةِ على مستوى الاختبار.

     

    ربَّما يجب أن نُجرِّبَ إذاً شيئاً أكثرَ موضوعيَّةً وموثوقيَّة. لنفترضْ أننا وضعْنا المنطقَ مكانَ الاختبار لأنّ استخدامَ المنطق يمكن أن يُؤدِّيَ إلى معرفةٍ أكثرَ تحديداً، كما هو الحال في منطق الرياضيَّات. ليس من المُستغرَب أن يكون هذا المسارُ قد جُرِّبَ في علم اللاهوت. ينبغي في الواقع أن يَدْخُلَ عنصرُ المنطق في علم اللاهوت. وحتَّى عندما تحدَّثْنا عن استخدام الاختبار كأساسٍ، كان من المُفترَض أن نُفكِّر في أهميَّة اختبارنا، والتفكيرُ معناهُ المنطق. والتفكير في علم اللاهوت، كما نفعل الآن، هو بالتأكيد استخدامُ منطقِنا. من الواضح أننا لا نستطيع إتمامَ علمِ اللاهوت دون توظيفِ المنطق، ويمكننا بعد ذلك أن نتركَ العاطفةَ والاختبار خارج الدين.

     

    لكنَّ الاقتراحَ يتجاوزُ هذا. فالتفكير والمنطق هما مصدرُ معرفتنا بالله وطُرقِه. أصدر الفلاسفة، على سبيل المثال، حُججاً عن وجود الله استناداً إلى استخدام المنطق، وحاولوا استنتاجَ الهيئةِ التي يبدو عليها الله، والكيفيَّةِ التي يتصرَّف بها. وقد اُعْتِبرَ علمُ اللاهوت نظاماً للأفكار التي يمكن اكتشافُها عن طريق المنطق.

     

    ولكنْ ينبغي علينا مرَّةً أخرى أن نكون حاسمين ونسأل ما إذا كان هذا النهجُ ينجَحُ حقَّاً. هناك اعتراضان رئيسيَّان. هل عقولنا كبيرةٌ بما يكفي للتفكير تفكيراً صحيحاً في الله؟ فمن معرفتنا البسيطة إلى حدٍّ ما عن الله كمؤمنين مسيحيّين، لدينا من المنطق ما يجعلنا نعتقد بأنه غير محدودٍ. كيف يمكن لعقولنا إذاً أن ترقى إلى مستوى مُهمَّةِ فهمه؟ هذا شيءٌ مستحيل. نُؤكِّد على أنه حتَّى إذا نجحْنا في تكوين فهمٍ عقليّ لله، فكيف نعرف أنه يتوافقُ مع الواقع؟ كيف نعرف أنّ أفكارَنا تتوافقُ مع ما هو حقيقيٌّ؟ كيف نعرفُ من خلال استخدام المنطق أنّ اللهَ موجودٌ؟

     

    تؤولُ مثلُ هذه الحُججٍ إلى اقتراحِ أنّ المنطق يجب أن يكونَ مُدركِاً لمحدوديَّاته الخاصَّة. من الواضح أنّ المنطقَ ليس مفتاحَ علم اللاهوت على الرغم من أنه، مثل الاختبار، له قيمته ولا يمكن وضعُه جانباً. أمَّا الخطأ فيكمن في أننا في كلتا الحالتين قد بدأنا بالبشر محاولين أن نكتشفَ من خلال قدراتهم ما الذي يشبهُهُ اللهُ دون الوصول إلى نتائجَ جيِّدة. ما نحتاجُه هو بعضُ الأدلَّةِ على نشاط الله، وهو شيءٌ يفعله الله كي يعرّفَنا بنفسه، أي الإعلان. كُنَّا نتحدَّثُ حتَّى الآن عن الاكتشاف من قِبَلِ البشر؛ أمَّا ما نحتاجه فهو الإعلان من الله. يتوافق الاثنان معاً بالطبع. ينبغي علينا اكتشافُ الإعلان وقبولُه من خلال استخدام مَلَكاتنا، ولكن إشكاليَّتنا نشأتْ لأننا بدأنا من النهاية الخاطئة، وبدأنا بأنفسنا بدلاً من الله. ينبغي أن يكون لكُلٍّ من الاختبار والمنطق شيءٌ ما يعملان عليه وإلَّا فسوف يظلَّان فارغَيْن. وينبغي أن تكون استنتاجاتُ كُلٍّ من الاختبار والمنطق قابلةً للاختبار من بعض المعايير الخارجيَّة الموضوعيَّة، وإلَّا فسوف تبقى استنتاجاتُهما غير مُؤكَّدةٍ وغير مستندةٍ إلى أساسٍ سليم.

     

    وبالتالي، من الأساسيّ أن نُدرِكَ أنه إذا كان يوجد إلهٌ فلا يمكن معرفتُه إلّا من خلال إعلانه عن نفسه: "لا يمكن معرفة الله إلَّا من خلال الله وحده". ما ينبغي أن نسأله الآن هو ما إذا كان الله قد أعلن عن نفسه للفهمِ البشريّ، والكيفيَّةُ التي أعلن بها ذلك.

     

    الإعلان في الطبيعة (إشعياء 40)

     

    اِنجرَّ الناسُ في جميع الأعمار والثقافات تقريباً للاعتقاد بوجودِ قوّةٍ أو قُوى أكبرَ من أنفسهم من خلال النظر إلى طبيعة العالم من حولِهم (راجع المزمور 19). وحقيقةُ وجودِ عالَمٍ من الأساس دفعتِ الناسَ للتساؤل عمَّا إذا كان العالمُ قد ظهرَ إلى الوجود بمفردِهِ أو أنه لا يشير إلى نشاطِ خالقٍ (وهذا ما يُسمَّى بالحُجَّة الكونيَّة لوجود الله). نُؤكِّد على أنّ الكونَ ليس التقاءً عشوائيَّاً للأجزاء، لكنّه يُظهِرُ دليلاً على التركيب بل الجَمال أيضاً: يمكن للمرء أن يسألَ ما إذا كان الدليلُ على "التصميم" لا يشير إلى وجودِ مُصمِّمٍ (الحُجَّة الغائيَّة). وأخيراً، توجد حقيقةٌ مفادُها أنه على الرغم من أنّ الكون ماديٌّ في التركيب، إلّا أنه يوجد نشاطٌ عقليّ وروحيّ فيه، وتوجد أفكارٌ مثل الخير والعدل والمَحبّة، والتي  لا يمكن أن تكون قد نشأتْ من مُجرَّدِ نظامٍ ماديّ. ألا يشيرُ هذا إلى وجودِ كائنٍ أخلاقيّ وروحيّ كخالقٍ للكون (الحُجَّة الأخلاقيَّة

     

    تثيرُ طبيعةُ الكون إذاً تساؤلاتٍ حول أصلِه وخاصيَّتِه. وقد صيغَتْ هذهِ الأسئلةُ في شكلِ حُججٍ لوجود الله وطبيعته، ولكنْ ظهرَ جدالٌ كبير حول ما إذا كانتْ هذه الحُججُ تُثبِتُ أيَّ شيءٍ في الواقع. الحقيقة هي أنّ العديدَ من المُفكِّرين غير مقتنعين بها، ويمكن القولُ إنّ الحُجَّة التي لا تُقنِع الناسَ الأذكياء ليست حُجَّةً مُقنِعة، لأنها في الواقع لا تُجبِرُ على الموافقة. من ناحيةٍ أخرى، يمكن القول على قِدَمِ المساواة إنّ الحُججَ المُضادَّةَ التي تهدف لدحض وجود الله لم تكنْ أكثرَ نجاحاً. فالوضع أشبهُ بالمأزق. يمكن القول إنّ الحُججَ التقليديَّة تُظهِر أنّ الإيمانَ بالله عقلانيٌّ، وتساعد على تأكيدِ الإيمان بالله على أساسِ أسبابٍ أخرى. قد يُنظَرُ إلى الكون في ضوءِ الأدلَّة الأخرى على أنه يُشكِّل إحدى الطُرق التي كشفَ بها اللهُ عن نفسه لنا، ولكنْ تبقى الحقيقةُ أنّ هذا الإعلان هو  إعلانٌ منثورٌ إذا ما أخذناه بمفرده، وأنه في أفضل الحالات لا يمكنه أن يُعلِّمَنا إلّا القليلَ عن طبيعة الله. ومعَ أنّ بولس آمنَ أنّ الخليقة تكشف عن الله، إلَّا أنه أدرك أنَّ عقولَ البشر كانت عمياءَ عن أهميَّتِها (رومية 18:1-23). من الواضح أننا ينبغي أن نبحثَ عن إمكانيَّةِ وجودِ أدلَّةٍ أخرى.

     

    الإعلان في التاريخ (المزمور 78)

    يمكننا أنْ نخطوَ خطوةً أخرى من خلال التساؤل عمَّا إذا كان يوجدُ أيُّ دليلٍ على نشاطِ الله في الأحداث التاريخيَّة. هل توجدُ أيَّةُ طريقةٍ يكشفُ بها شكلُ التاريخِ البشريّ عن حضور الله؟ كان هذا بالتأكيد اعتقادَ بني إسرائيل. كانوا يؤمنون أنه، فيما يتعلَّقُ بماضيهم، تكلَّمَ الله إلى إبراهيم ودعاهُ ليتركَ أرضَه، ويستقرَّ في كنعان حيث سيكون سَلَفاً لأمّتِهم. وآمنوا بعد نجاتِهم من السبي في مصر أنّ الله هو الذي أخرجهم. أقام الله موسى ليكون قائداً لهم، ونقلَهُمْ موسى عبرَ الماءِ والبريَّة إلى أرض الميعاد. أعطاهم حُكَّاماً ولبَّى رغباتِهم. عندما كانوا يُخطِئون كانوا يعتبرون أنّ بلاويهم هي دينونةُ الله على خطاياهم، وعندما كانوا يزدهرون كانوا يعتبرون أنَّ هذا دليلٌ على بركة الله. وبالتالي، كانوا يتحدَّثون عن يهوه (أي الله بحسب لغتهم) باعتباره اللهَ الحيّ، ممَّا يعني أنه كان فعَّالاً ويصنعُ الأشياء، على عكسِ أصنامِ الأمم الميِّتة.

     

    لدينا هنا بالتالي إعلانٌ عن الله يُظهِر اهتمامَه بالناس ويَعرضُ دينونَته الأخلاقيَّة على العالم، وهذا يأخذنا خطواتٍ أبعدَ بكثيرٍ من الإعلان في الطبيعة. ليس من المُستغرَبِ أن يتوقَّفَ بعضُ علماء اللاهوت عند هذه النقطة ويقترحوا أنّ الطريقةَ التي يكشف بها اللهُ عن نفسه هي ببساطةٍ من خلال الأحداث. الوحيُ في وجهة النظر هذه يعني العملَ الإلهيّ. ومع ذلك، فإنّ الأمرَ ليس بهذه البساطة. كيف نميّزُ الأحداثَ التي تشير إلى نشاط الله؟ وكيف نستشفُّ أهميّتَها؟ إذا نظرتَ إلى سِجلّاتِ جيران إسرائيل، فسوف تجد أنهم نظروا إلى الأحداث نفسها لكنّهم فسَّروها تفسيراً مختلفاً تماماً – هذا إذا كانوا قد كلَّفوا أنفسهم عناءَ تفسيرِها في المقام الأوَّل. رأوا نشاطَ آلهتهم في بعضٍ منها، وكانوا ينكرون تفسيرَ الإسرائيليّين من حيثُ نشاطِ يهوه.

     

    بالإضافة إلى ذلك، ربَّما نسألُ ما إذا كان إعلان الله هذا كافياً. فالله الذي لا يعملُ إلَّا في التاريخ هو إلهٌ غيرُ شخصيٍّ. وليس من الواضح أنه يمكن للأفراد معرفتُه. يشير اختبارُنا المسيحيّ (الذي قد نناقشه بصفةٍ قانونيَّة) إلى أنه ينبغي معرفةُ شيءٍ أكثر من هذا عن الله.

     

    الإعلان في يسوع المسيح (يوحنَّا 19:5-47)

    كان مجيءُ يسوع أسمى إظهارٍ وتحقيقٍ للإعلان الذي بدأ اللهُ عملَهُ في حياة إسرائيل. أكَّد يسوعُ على أنه يتكلَّمُ باسم الله، وأنه يُعرِّفُ الناسَ بمشيئة الله. وقد كشف في شخصيَّته وأفعاله طبيعةَ الله وأظهر البرّ والمَحبَّة اللذين يمكن اعتبارُهما انعكاساً لشخصيَّة الله. صنع أعمالاً عظيمة أثارَتِ السؤالَ عن عدمِ كونهِ رجلاً عاديَّاً، والأهمُّ من ذلك كُلّه، آمن تلاميذُه بعد موته أنه عادَ للحياة مرَّةً أخرى، وأنهم تمكَّنوا من رؤيتِه والتحدُّثِ إليه. آمن أتباعُه بشكلٍ ما أنّ "الله كان في المسيح" (2 كورنثوس 19:5) وتحدَّثوا عنه باعتبارِهِ كلمةَ الله.

     

    اتَّخذ الإعلانُ في يسوع المسيح شكلاً شخصيَّاً. لم يَعُدْ مُجرَّدَ رؤيةِ آثارِ نشاطِ الله في الطبيعة أو التاريخ. آمن أتباعُهُ أنّ الله كان يوجد بشخصه، ويُعرَفُ على أنه الإنسان يسوع. تواصلَ الله معنا من خلال التحدُّثِ بالكلمة الذي كان في الحقيقةِ شخصاً. من المُؤكَّد أنّ هذا هو الإعلانُ الأسمى عن الله، وهو كذلك. ولكننا نواجهُ مرَّةً أخرى السؤالَ نفسَه الذي واجهناه منذ قليلٍ: كيف نعرف أنّ يسوع كان إعلاناً عن الله؟ كيف نعرف ما يقوله الله من خلاله؟ وللتأكيد أيضاً، كيف نعرف ما قاله يسوع وما فعله بما أننا لم نحظَ بامتيازِ رؤيتِهِ بأنفسنا؟ وهو ليس سؤالاً أحمق أو خارجاً عن الموضوع، لأنّ الحقيقةَ البسيطة هي أنّ الناس شكَّلوا الكثيرَ من الأفكار المختلفة عن يسوعَ وأهميَّتِه. وحتَّى إذا كان الإعلانُ في يسوع هو الإعلانَ الأسمى عن الله، فإنه ليس بالضرورةِ إعلاناً كافياً لنا.

     

    الإعلان في الكتاب المُقدَّس (الرؤيا 1)

    تكمنُ الإجابةُ عن الأسئلةِ التي طرحْناها في وجودِ الكتابِ المُقدَّس. إذا نظرنا إلى تاريخ إسرائيل نجدُ أنّ الأنبياءَ عبَّروا عنْ أهميَّةِ هذا التاريخِ مؤكِّدين على أنهم تكلَّموا باسم الله (1 صموئيل 3؛ إشعياء 6؛ هوشع 1؛ عاموس 14:7-15). فقد أعلنوا للناس أنَّ شخصيَّةَ يهوه كانت بارَّةً ومُتحَّابة (إشعياء 3:6؛ عاموس 6:5-7؛ التثنية 8:7؛ إرميا 3:31؛ هوشع 1:11)، وأنّ إسرائيلَ كان شعبَه المختار (التثنية 7:7-8؛ إرميا 23:7؛ 11:13) وأنّ اللهَ لم يطلُبْ منهمُ العبادةَ فقط ولكنْ أيضاً البرَّ والمَحبَّةَ في حياتِهم القوميَّةِ والاجتماعيَّة (عاموس 21:5-24؛ إشعياء 27:1؛ ميخا 8:6). وعبّر الأنبياءُ وغيرُهم من الرجال المُوحى لهم عن إعلان الله في الطبيعة (إشعياء 40؛ 5:42؛ عاموس 8:5)، وكان يُنظَرُ إلى التاريخِ على أنه ساحةُ نشاطِهِ (التثنية 28؛ القضاة 2؛ عاموس 14:5؛ دانيال 2).

     

    ينطبقُ الشيءُ نفسُهُ على يسوع. فلولا الإنجيليّونَ الذين سجَّلوا القِصَّة لَما عرَفْنا ما قاله وما فعله، ولولا تفسيرُ كاتبي الكتاب المُقدَّس عن يسوع لَما عرَفْنا أهميَّتَه. لفتَ يسوعُ نفسُه الانتباهَ إلى الطريقةِ التي تنبَّأَ بها الأنبياءُ عن مجيئِه حتَّى تُفهَمَ حياتُه في ضوء رسالتهم (متَّى 17:5؛ لوقا 44:24). ونقل أتباعُه النقطةَ نفسَها إلى مستوىً أبعد إذ أدركوا أنّ أهميَّةَ يسوع تمثَّلتْ في كونه تحقيقَ الرسالةِ النبويَّة. ولكنهم استطاعوا قبلَ كُلّ شيءٍ النظرَ في حياتِهِ الأرضيَّةِ في ضوءِ قيامتِهِ واختبارِهِم المسيحيّ، وبالتالي النظرَ في ذلك بطريقةٍ لم تكنْ مُمكنةً في وقتٍ سابق. كان الأمر يتطلَّبُ معرفةَ يسوعَ المُقام والروحِ القُدُس لوضعِ حياةِ يسوع على الأرضِ في سياقِها الكامل.

     

    يعني هذا أنّ فهمَنا لأحداثٍ مُعيَّنة بأنها أحداثٌ مرتبطةٌ بالوحي يعتمدُ على تفسيرِ هذه الأحداث بواسطةِ أشخاصٍ أوحى الله لهم لإدراك أهميَّتِها والتعليقِ عليها. وبهذه الطريقة، يمكنُ للأحداثِ الأصليَّةِ المرتبطةِ بالوحي أنْ تكشِفَ عن الله للأجيال اللاحقة التي لم تشاركْ فيها بما في ذلك جيلُنا، وفي الوقتِ نفسِه يكون "التفسيرُ" المُوحى به متوفّراً لنا أيضاً.

     

    وهكذا نجدُ أنّ الإعلانَ تمّ في الأحداثِ وأيضاً في نقلِ أهميَّةِ تلك الأحداث إلى كاتبي الكتاب المُقدَّس. وليس الإعلانُ مسألةَ أحداثٍ أو كلماتٍ، ولكنه مزيجٌ من الاثنين بحيثُ لا يكتملُ أحدُهما دون الآخر. من الواضح أنّ تفسيرَ الأحداث التي لم تحدثْ قط ليست له قوَّةٌ مرتبطةٌ بالوحي. ولكن لا توجدُ فائدةٌ مماثلة لمُجرَّد سرد الأحداث الذي لا يُظهِر أنها مرتبطةٌ بالوحي. الكتاب المُقدَّس سجلُّ تاريخيّ وتفسيرٌ توضيحيّ منسوجٌ في كيانٍ واحد، وبسبب هذه الشخصيَّةِ المزدوجةِ فإنه يُشكِّلُ إعلانَ اللهِ لنا.

     

    في ضوء هذه المكانةِ المُهمَّة التي يشغلُها الكتابُ المُقدَّس كوسيلةٍ للإعلان الإلهيّ، ينبغي الآن أنْ نفحصَ طبيعتَهُ بمزيدٍ من التفصيل.

     

    وحيُ الكتاب المُقدَّس (2 تيموثاوس 14:3-17)

    يتكوَّن الكتابُ المُقدَّس من جزئين. لدينا في الجزء الأوَّل سجلُّ الحلقةِ الأولى الكبيرة من الإعلان، أيْ تعاملاتِ الله مع إسرائيل. قَبِلَ الشعبُ اليهوديّ العهدَ القديم بحلول زمانِ يسوع كمجموعةٍ من الوثائق السلطويَّة مع بعضٍ من الشكِّ حول مكانةِ واحدٍ أو اثنين من أسفار الأنبياء الصغار، ولكنَّ العهد القديم كان موجوداً إلى حدٍّ كبير في شكله الحاليّ. قَبِلَ المسيحيّون الأوائل هذه المجموعةَ من الأسفار قبولاً طبيعيَّاً رغم أهمّيةِ الإشارة إلى أنهم لم يقبلوا ما ظهرَ من تقاليدَ غيرِ مكتوبةٍ مع أنّ بعضَ اليهود رأوها مُهمَّةً بقدرِ أهميَّةِ العهد القديم. أضافوا للعهد القديم جزءاً ثانياً، وهو سجلّاتُ إعلان الله في يسوع وحياة الكنيسة. لم تحدثْ عمليَّةُ تشكيلِ الكتاب المُقدَّس هذه في وقتٍ واحد ولكن على مدى فترةٍ طويلة من الزمن. وعلى الرغم من أنّ المُهمَّةَ اكتملَتْ من حيثُ المبدأ بحلول نهايةِ القرن الثاني، إلَّا أننا لا نجد حتَّى سنة 367 بعد الميلاد أوَّلَ قائمةٍ موثوقٌ بها للسبعة والعشرين سفراً للعهد الجديد التي توجد في نُسَخِنا اليوم من الكتاب المُقدَّس. أمَّا عمليَّة تشكيل "القانون الكنسيّ" (أو القائمة الموثوق بها) لأسفار الكتاب المُقدَّس فلم تكن إلى حدٍّ كبيرٍ تداولاً للسلطان من جانب الكنيسة على هذه الأسفار بقدرِ ما كانت اعترافاً بالسلطان الذي تحظى به بطبيعتها.

     

    ما الذي كانتِ الكنيسةُ تفعلُه بالضبط عندما اعترفَتْ بسلطان هذه الأسفار؟ بقدر ما كان الأمر يتعلَّقُ بالعهد القديم، كان يتبع ببساطةٍ مثالَ يسوعَ نفسه وأتباعِهِ الذين قَبِلوا هذه الكتابات باعتبارها أسفاراً مُقدَّسة. وفي حالة العهد الجديد، فإن الكنيسة قَبِلتْ تلك الأسفارَ التي كانت تستخدمها كنائسُ لا جدالَ في استقامةِ رأيها من الأيَّام الأولى للمسيحيَّة، والتي كتبها الرُسُل أو الرجالُ الذين لازَموهم (مثل مرقس ولوقا). لم يكن هذا الاختبارُ شكليَّاً بسبب وجود قدرٍ كبيرٍ من الأدب المسيحيّ في ذلك الوقت، وكان بعضه يتضمَّن محتوىً روحيَّاً سامياً، وكان بعضه خاطئاً في جوهره وصحيحاً في مظهره، مع تأكيداتٍ بالعودة إلى الأيَّام الأولى للكنيسة، ووَجبَ على الكنيسة اللجوءُ إلى الحُكم الدقيق في تحديد الأسفار التي استوفَتْ بالفعل شروطَ القانونيَّة كأسفارٍ مُقدَّسة.

     

    تكمن قيمةُ هذه الأسفار في حقيقة أنها سجَّلتْ أعمالَ إعلانِ الله العظيمة في تاريخ إسرائيل وفي خدمة يسوع. واحتوى هذا السجلُّ في الوقت نفسه على التفسير المُوحى به لهذه الأحداث التي يمكن من خلالها فهمُ معناها الحقيقيّ. الكتاب المُقدَّس بالطبع كتابٌ بشريّ كتبَهُ بشرٌ، ويحملُ علاماتِ الشخصيَّات المختلفة التي ساهمت في تكوينه. إذا كان يُخبِرُنا عن الكيفيَّة التي كشفَ بها الله عن نفسه لهؤلاء الناس، فإنه يُسجِّلُ أيضاً كيفيَّةَ استجابتهم لإعلان الله – والحكاية هي أحياناً حكايةُ فشلٍ ذريع في فهم إعلان الله وطاعته.

     

    الكتاب المُقدَّس هو، في الوقت نفسه، عملُ الأشخاص الذين أُعلِنتْ لهم كلمةُ الله بطُرقٍ مُتنوِّعة. كان الكُتَّاب يكتفون أحياناً بتسجيل الأحداث التاريخيَّة مستخدمين وسائلَ المعرفة العاديَّة لاكتشافِ ما قد حدث. وكانوا في بعض الأحيان يُسجِّلون الرسائل التي تلقَّاها الأنبياءُ والرُسُلُ من الله. وكانوا أحياناً يتأمَّلون تأمُّلاً عميقاً في أذهانهم في أمور الله، واستخدم الله أفكارَهم لإيصال رسالته إليهم. وقادهُمُ اللهُ في بعض الأحيان لكتابةِ كلماتٍ تحملُ معنىً أعمق ممَّا كانوا على علمٍ به (1 بطرس 10:1-12؛ راجع دانيال 8:12-9). ومع ذلك، على الرغم من أنّ الكتاب المُقدَّس هو مجموعةٌ من الأسفار البشريَّة، إلَّا أنّ كتاباته المُتنوِّعة تُؤكِّد على أنها ذاتُ أصلٍ إلهيّ. واستطاع الكُتَّاب اللاحقون عندما نظروا إلى الماضي إلى الكتابات السابقة بأن يصفوها بأنها موحىً بها من الله أو أنفاسُهُ حسب ترجمةٍ ثانية (2 تيموثاوس 16:3) وتمكّنوا من الإقرارِ بكون كُتَّابها أشخاصاً مسوقين من الرّوح القُدُس (2 بطرس 20:1-21).

     

    يستند هذا الوصفُ للكتاب المُقدَّس، باعتباره كتاباً مُنتَجاً بإرشادِ الوحي الإلهيّ، على شهادة كُتَّابه. ما سببُ قبولِنا له كوصفٍ صادقٍ بالمقارنة مثلاً مع ادّعاءاتِ كتابِ المورمون أو الكتب المُقدَّسة للأديان الأخرى؟ من الواضح أنه لا يمكنُ محاولةُ الإثبات العلميّ لوحي الكتاب المُقدَّس. فالإيمان بالله ليس مسألةَ قبولٍ لإثباتٍ علميّ أو فلسفيّ لوجوده؛ وكما لاحظنا بالفعل، لا توجد مثلُ هذه البراهين المقبولة على النطاق العالميّ. نحن نؤمن بالله لأنّ تفسير اختبارها من حيثُ وجود الله هو التفسير الأكثر إرضاءً لجميع الأدلَّة. قد يتجاوز هذا الاعتقاد الأدلَّة (كما هو الحال مع العديد من الفرضيَّات في مجالات المعرفة الأخرى) وقد يتعارض حتَّى مع بعض الأدلَّة (مثل وجود الألم والمعاناة)؛ ومع ذلك، على الرغم من وجود عوامل من الواضح أنها تصارعُ للوقوفِ ضدّ الإيمانِ بالله، فإن المؤمن مُهيَّأٌ للتأكيد على تعبير "من الواضح"، لأنه يرى في تقديره رجحانَ كفَّة الدليل على الإيمان.

     

    ينتج عن هذا شيئان. الشيء الأوَّل هو أنه إذا كان قبولُ وجودِ الله مسألةَ إيمانٍ أكثر من كونه مسألةَ دليلٍ جامد، فإن قبولَ الكتاب المُقدَّس باعتباره وحيَ الله ينبغي أن يكون أيضاً مسألةَ إيمانٍ. لكن هذا لا يعني أنّ قبول الكتاب المُقدَّس فعلٌ غير عقلانيٍّ دون أيّ أساسٍ في الأدلَّة بقدرٍ أكبر من أنّ الإيمان بالله غير عقلانيٍّ وغير مُبَّررٍ. النقطة الثانية هي أنّ قبولَ الكتاب المُقدَّس باعتباره إعلانَ الله ينبغي أن يتلاءمَ مع ما نعرفه عن الله حسبما أعلنَ عن نفسه. لا يشكّ المسيحيّ في أنّ الكتاب المُقدَّس فيه سجلٌّ عن الكيفيَّة التي أظهر بها نفسَه في يسوع المسيح. تكمن المشكلةُ في ما إذا كان من المنطقيِّ التأكيدُ على أنّ الله الذي أظهر نفسَه في يسوع قد أظهر نفسَه أيضاً في إعلانٍ مكتوب. هل الكتاب المُقدَّس نفسُه إعلانٌ مُوحى به من الله أم أنه مُجرَّد سجّلٍ بشريّ وتفسيرٍ لأعمال الإعلان التاريخيَّة؟

     

    غالباً ما ظهرَ جدالٌ بهذه الطريقة مفادُهُ أنّ البياناتِ المكتوبةَ يمكنها أن تُخبِرَنا عن أعمال الإعلان، ولكنّها لا يمكن أن تكونَ هي نفسُها إعلاناً، لأنّ الإعلان لا يمكن أن يحدثَ إلَّا من خلال الأحداث والأشخاص. وبالتالي يكون الكتاب المُقدَّس كتاباً عن الإعلان، ولكنه ليس في حدّ ذاته إعلاناً عن الله. ومع ذلك، لا تُنصِفُ هذه الحُجَّةُ شخصيَّةَ الله الذي أظهر نفسه في يسوع إذْ أظهر نفسه كشخصٍ. لكنَّ التواصلَ الشخصيّ يحدثُ عن طريق الكلمات لدرجةِ أنّ المرءَ يكاد يُعرِّفُ البشرَ  بأنّهم كائناتٌ قادرةٌ على التواصل عن طريق اللغة. وبالتالي، تحدَّثَ الله إلى الأنبياء بما بدا لهم ككلماتٍ (على سبيل المثال: التثنية 1:4-5؛ 2 صموئيل 2:23؛ إرميا 9:1)؛ لا شكّ أنّ "كلمات" الله اللامحدود المتسامي تتجاوزُ الفهمَ المحدود للإنسان، لكننا قد نقول إنّ الله هيَّأ أشكالَ التعبير عنه لِما يمكننا أن نتلقَّاه. نُؤكِّد على أنه عندما أظهر الله نفسَه في يسوع، اتَّخذ الإعلانُ إلى حدٍّ كبيرٍ شكلَ كلماتٍ. من المُؤكَّد أنّ كاتبي الأناجيلِ الأربعةِ كانوا مُهتمّين بما قاله يسوع بقدر اهتمامهم بما فعله. اعتبر يوحنَّا أنّ ما قاله يسوع كان يحملُ طابعَ كلامِ الله (يوحنَّا 16:7-17؛ 38:8؛ 24:14؛ 8:17، 14). وعندما حاولتِ الكنيسةُ الأولى إعلانَ الله للناس الذين لم يقابلوا يسوع فعلتْ ذلك بالوعظ. الكلماتُ شكلٌ لا غنى عنه للتواصل الإلهيّ (راجع 1 كورنثوس 13:2). وبالتالي ينتجُ عن طبيعة الله الشخصيَّة أن يعلنَ عن نفسه في شكلٍ لفظيّ وكذلك في الأحداث والأشخاص، وبالتالي لا يوجد ما يثيرُ الدهشةَ في التأكيد المسيحيّ بأنّ الكتاب المُقدَّس هو كلمةُ الله في شكلٍ مكتوب. لا يمكن، دونَ سجلٍّ مكتوب، فهمُ الأحداث الأصليَّة التي أظهر بها الله نفسه بأهميَّتها الكاملة، أو أن تكون لها أيَّةُ قيمةٍ مرتبطةٍ بالوحي للأجيال اللاحقة التي لم تختبرْها.

     

    أشار بعضُ الناس إلى أنّ الكتاب المُقدَّس نفسه، بالطريقة التي كُتِبَ بها في الأصل، ليس كلمةَ الله، ولكن من الممكن أن يصبحَ كلمةَ الله عندما يستخدمُهُ روحُ الله للتحدُّث في مواقفَ جديدةٍ لقُرَّاءٍ جُدُد. هذهِ النظرةُ صحيحةٌ في ما تُؤكِّده تأكيداً إيجابيَّاً، أي أنّ الكتاب المُقدَّس يبقى خطاباً ميِّتاً للقارئ ما لمْ يعملِ الروحُ فيه ومن خلاله لإنارة عقل القارئ. ولكنّها نظرةٌ كاذبة في ما تُنكِره، لأنّ أحدَ الأسباب هو أنه من المستحيل أن نرى كيف يمكن أن يصبحَ الكتابُ المُقدَّس كلمةَ الله إذا لم يكن بالفعل كلمة الله. بالإضافة إلى ذلك، من الصعب أن نرى السببَ الذي يجعل الكتاب المُقدَّس وحدَه لديه هذه الخاصيَّة بأن يصبح كلمةَ الله للقارئ. وفوق هذا كُلّه، لا تتوافقُ هذه النظرة مع موقف يسوع وكُتَّاب العهد الجديد عن أسفار العهد القديم التي قَبِلوها بوضوحٍ كإعلانٍ إلهيّ.

     

    يجدُ الناسُ أحياناً صعوبةً في تصديق أنّ أحدَ الأسفار التي كتبَها إنسانٌ هو موحىً به من روحِ الله. ينبغي علينا أنْ نرفضَ بالتأكيد وجهةَ النظر القائلة بأنّ كُتَّابَ الكتابِ المُقدَّس لم يكونوا سوى أدواتٍ سلبيَّة، مثل آلاتٍ كاتبة، استخدمَها اللهُ لتسجيل ما أراده. وقد ظهرَ من حينٍ لآخر مُفكِّرون (مثل الكاتب اليهوديّ فيلون) فكَّروا في الكتاب المُقدَّس بهذه الطريقة، ولكن من الآمن القولُ بأنّ وجهة النظر هذه لاقَتِ الرفضَ بشكلٍ عامّ لأنها لا تُنصِفُ الطريقةَ التي يُعبِّر بها كُتَّابُ الكتابِ المُقدَّس. لن توجد طريقةٌ أصحّ لقولٍ هذا أكثرَ من القول بأنّ يسوع تصرَّفَ مثلَ جهازِ تسجيلٍ إلهيّ عندما كان يتكلَّم وينطقُ برسائلَ مُسجَّلةٍ مُسبَقاً. يُؤكِّد كُتَّابُ الكتاب المُقدَّس في الواقع على أنّ كلمة الله وَصَلَتْهُمْ بطُرقٍ مختلفة، ولكن في المعتاد من خلال الممارسة الطبيعيَّة لموهبتيّ العقل والمنطق اللتين منحَهُما الله لهم.

     

    يوجد شيءٌ من المفارقة هنا في أننا يمكن أنْ نعتبرَ الكتاب المُقدَّس كتاباً بشريَّاً وفي الوقت نفسِه كتاباً إلهيَّاً. لكنّ المفارقةَ ليست تصريحاً مُتناقِضاً وإنَّما بالأحرى تعبيرٌ عن تصريحين يبدو أنهما متناقضان ولكنهما يحتويان على حقائق تكميليَّة. ونرى هذا النوع نفسَه من التناقض في الاعتقاد بأنّ يسوع كان رجلاً عاديَّاً وفي الوقت نفسه كان ابنَ الله. يؤمن المسيحيّون إيماناً جازماً بهذا على الرغم من أنّ أحداً لم يتمكَّن من تفسيره قطّ، ومن أنه لا يمكن في الواقع تفسيره على مستوى الفهم البشريّ نظراً لاهتمامه بكيفيَّة الارتباط بين ما هو إلهيٌّ وما هو بشريٌّ. يمكننا استخدام هذا التشبيه لمساعدتنا على فهم طبيعة الكتاب المُقدَّس بشرط ألَّا نسقط في عبادة الكتاب المُقدَّس، أي في خطأ اعتبار الكتاب المُقدَّس نوعاً من تجسُّد الروح القُدُس وبالتالي عبادتِهِ. صحيحٌ أنّ بعض علماء اللاهوت قد اعترضوا على استخدام هذا التشبيه معتبرين أنّ وحي الكتاب المُقدَّس لا يشبه تجسُّدَ ابنِ الله، وهم بالطبع مُحقّون في هذا. ففي التجسُّد صار الأقنوم الثاني من الثالوث إنساناً ولكن لا يُعقَل لأقنومٍ إلهيّ أن يصير الكتاب المُقدَّس. لكن هذه ليست نقطة التشبيه، فهي تُؤكِّد بالأحرى على أنه مثلما استطاع الله أن يتَّحدَ مع الإنسان في التجسُّد فإنه استطاع أن يُوحِّد كلمتَهُ بكلماتِ بشرٍ في الكتاب المُقدَّس.

     

    تمتدّ عمليَّةُ الوحي إلى الكتاب المُقدَّس ككُلٍّ. عندما قَبِلَتِ الكنيسةُ قانونيَّةَ الكتاب المُقدَّس كانت تُنكِرُ صراحةً وحيَ الكتب الأخرى التي تناولت تاريخَ إسرائيل والكنيسةِ الأولى، لكنّها كانت تُؤكِّد بالمقدار نفسه على قناعتها بأنّ جميع الأسفار المقبولة كانت مُوحىً بها من الروح القُدُس. لا يعني هذا أنّ جميع الأسفار تُظهِر الله بالتركيز نفسه أو بالوضوح نفسه. من الواضح أنّ إنجيل يوحنَّا أو رسالة رومية يتضمَّنان مقداراً من الرسالة الإلهيَّة أكبرَ من سفر الجامعة أو نشيدِ الأنشاد لسليمان. لكنّ الأسفارَ اللاحقة تنقل أشياءَ مُهمَّة عن الإعلان المركزيّ لله في يسوع حتَّى إذا كانت خارجيَّة. يجب ألَّا ننسى أنّ أسفار الكتاب المُقدَّس المُتنوِّعة كانت مكتوبةً لأناسٍ من مختلف الأعمار والحالات، وأنّ الفقرة التي لا تتحدَّث إلينا الآن ربّما تحملُ رسالةً ذاتَ صلةٍ قريبة جدَّاً بأشخاصٍ آخرين في ظروفٍ مختلفة. وردَ في خطابٍ من أحد المُبشِّرين منذ ثلاث أو أربع سنواتٍ: "الشكر لله على الطريقة التي يساعد بها إنجيلُ مرقس الناسَ هنا على رؤية أنّ المسيح قهرَ قوَّةَ الشياطين". لم يكن ذلك درساً نحتاجُهُ في هذا البلد في ذلك الوقت – على الرغم من أنّ قصص سُكنى الشياطين في الناس وطَرْدِ الأرواحِ الشرِّيرة قد أثبتَتْ ارتباطَها هنا أيضاً – ولكنها دون شكٍّ كانت وما زالت فعلاً وثيقةَ الصلة بالناس في الدولةِ الأفريقيَّة المعنيَّة.

     

    موثوقيَّةُ الكتاب المُقدَّس وعصمتُه (لوقا 1:1-4)

     

    إذا قلنا إنّ الكتاب المُقدَّس ككُلٍّ هو كلمةُ الله المُوحى بها، فإنّ التضمينَ الواضح هو أنه إعلانٌ موثوق به عن "الله". والكلمة التقليديَّة المرادفة لخاصيَّة الكتاب المُقدَّس هذه هي "العصمة"، أي خاصيَّة عدم تضليل الناس. يستند التأكيد على كون الكتاب المُقدَّس موثوقاً به تماماً على موقفِ يسوع من العهد القديم وشهادةِ الكتاب المُقدَّس عن طبيعته الخاصَّة (متَّى 17:5-18؛ مرقس 1:7-13؛ 35:12-37؛ يوحنَّا 39:5-47؛ 34:10-36؛ 26:14؛ 13:16-15؛ 1 كورنثوس 37:14-38؛ أفسس 3:3؛ الرؤيا 6:22)؛ فهو نتيجةٌ للاعتقاد بأنّ الكتاب المُقدَّس مُوحىً به من الله. وبالتالي فإنّ الاعتقادَ بموثوقيَّة الكتاب المُقدَّس، مثلُ الاعتقادِ بالوحي، مسألةُ إيمانٍ وليسَ مسألة دليلٍ، ولكن في الوقت نفسِه يمكن اختبارُ هذا الاعتقاد من خلال الدراسةِ التاريخيَّة بأساليبَ عاديَّة.

     

    كثيراً ما يُقالُ إنّ هذا الاعتقاد لم يعدْ مقبولاً من المسيحيّين العصريَّين، وإنه لا يمكننا أنْ نؤمنَ بموثوقيَّة الكتاب المُقدَّس بسبب العديد من الأخطاء والتناقضات المزعومة التي يتضمَّنُها. وبالتالي، ينبغي أن نُصرِّحَ بالنقاط التالية لتوضيح هذا الاعتقاد.

     

    أوَّلاً، تظهرُ صعوباتٌ كثيرة عندَ الإخفاقِ في تفسير الكتاب المُقدَّس تفسيراً صحيحاً. فهوَ إعلانٌ كاملٌ وموثوقٌ به عن الله. ليس المقصودُ من الكتاب المُقدَّس أن يكون موسوعةً تفصيليَّة بالمعلومات الواقعيَّة حول جميع الموضوعات؛ فهو لا يُقِرُّ بتقديم إجاباتٍ عن جميع الأسئلة التي قد نرغبُ في طرحها بل بتدريبِنا وتعليمِنا في العقيدةِ والتقوى المسيحيّتين.

     

    ثانياً، الكتاب المُقدَّس مكتوبٌ بلغةٍ شائعة وليس بالمصطلحاتِ العلميَّة والدقَّةِ السائدة في القرن الحادي والعشرين. على سبيل المثال، لا يدَّعي سفرُ التكوين أنه يُقدِّمُ علمَ كونيَّاتٍ بطريقةٍ علميَّة. وفي الواقع سوف يكون من الغباء توقُّعُ هذا؛ ولو كان هذا قد تحقَّق لما كان مفهوماً للقُرَّاء الأصليّين للكتاب المُقدَّس، كما أنه لن يكونَ مفهوماً بالنسبة لمعظمنا الذين لم يتلقَّوا تدريباً علميَّاً.

     

    ثالثاً، يُسجِّل الكتاب المُقدَّس إعلاناً مُتطوِّراً لله على مدى قرونٍ عديدةٍ للعديد من الناس المختلفين. ينبغي تفسيرُ بياناتِه الفرديَّة في ضوء الإعلان ككُلٍّ، وينبغي أن يرتبطَ التعليمُ المُبكِّرُ بالتعليم اللاحق. لا يمكن أن يستندَ الاعتقادُ إلى بياناتٍ فرديَّةٍ مأخوذةٍ من سياقِها الكتابيّ الإجماليّ. كانت مُتطلَّباتُ الذبيحة في العهد القديم صالحةً بقدر تفاصيلها، وكانت صحيحةً في زمانها، لكنها لم تعدْ تعبيراً صحيحاً عن مشيئةِ الله للمسيحيّين. فحتَّى إجراءٌ مثل العبوديَّة، التي تُعتبَر من المُسلَّماتِ كجزءٍ من النظام الاجتماعيّ في العهد الجديد، قد لا يعود مقبولاً اليوم في ضوءِ التعليم الأخلاقيّ العامّ للعهد الجديد نفسه.

     

    رابعاً، قدَّم علمُ الآثار إنجازاً كبيراً للتأكيد على دقّة الحقّ التاريخيّ للرواية الكتابيَّة، على الرغم من أنه في طبيعة الأشياء توجد العديدُ من البيانات التي لا يمكن توقُّعُ مثلِ هذا التأكيد عليها. عموماً، من الممكن أن يبدو أنّ المخطّط التمهيديّ الأساسيّ للتاريخ الكتابيّ يمكن الاعتماد عليه على الرغم من وجود العديد من المواضع التي لا يمكننا "إثباتُ" وقوعِ الأحداث بحسب الطريقة التي سُجِّلتْ بها، لأنّ الأدلَّةَ الداعمة المطلوبة غيرُ موجودةٍ. ينبغي أيضاً الاعتراف بأنّ الرواياتِ الكتابيَّة تثير في بعض المواضع صعوباتٍ تاريخيَّة لا توجد لها إجاباتٌ مُقنِعة في الوقت الحاضر. قد يكون أكثرُ المساراتِ حكمةً في مثلِ هذه الحالات هو تعليقُ الحُكم لأنّ الاكتشافاتِ والمناقشاتِ الجديدةَ قد تُغيِّرُ الوضع.

     

    خامساً، يرجع العديدُ من الصعوبات المزعومة في الكتاب المُقدَّس إلى إخفاقنا في تفسيرها تفسيراً صحيحاً. القاعدة الأساسيَّة للتفسير هي أنّ العباراتِ الواردة في الكتاب المُقدَّس ينبغي فهمُها وفقاً للطريقة التي قَصَدَ بها المُؤلِّفون الأصليّون فهمَها. من الحماقة التفكيرُ في البيانات المجازيَّة أو الشِعريَّة على أنها كانت تُسجِّلُ حقائقَ حَرفيَّة. كما أنّ العباراتِ التي قُصِدَ بها أن تُقرأ كأدبٍ قَصَصيّ ينبغي ألّا تُقرأَ وكأنّها رواياتٌ تاريخيَّة. من السهل على الأشخاص الذين لديهم طريقةُ تفكيرٍ حَرفيَّة الاعتقادُ بأنّ الحقَّ كُلّه ينبغي التعبيرُ عنه في بياناتٍ حَرْفيَّةٍ ناسين أنّ الحقَّ يمكن التعبيرُ عنه بالمجاز والرمزِ، وأنّ بعضَ الحقائق لا يمكن التعبيرُ عنها إلَّا بهذه الطريقة. لا يمكننا، على سبيل المثال، وصفُ بدايةِ الكون أو نهايته باللغة الحَرفيَّة، ويجب ألَّا نسيءَ فهمَ اللغةِ الرمزيَّة المُستخدَمة في الكتاب المُقدَّس بهذا الخصوص وألّا نفهمَها حَرفيَّاً.

     

    قد تساعد هذه الاعتبارات على إظهار إمكانيّة الدفاع عن الاعتقاد بوحي الكتاب المُقدَّس وموثوقيَّته ضدّ الحُججِ التي جرتِ العادةُ على تقديمِها ضدّه. توجد بالطبع صعوباتٌ حول العقيدة مثلما توجد صعوباتٌ حول الاعتقاد بمَحبَّة الله في كونٍ يحدث فيه الشرّ والألم، لكنَّ هذه الصعوباتِ ليستْ كافيةً للإطاحةِ بعقيدةٍ تستندُ إلى تعليمِ يسوع ورُسُله.

     

    يجب تقديمُ نقطتين إضافيّتين. النقطة الأولى، بما أنّ الكتابَ المُقدَّس كتابٌ بشريّ وإلهيّ في الوقت نفسه، ينبغي أخذ كلا هذين الجانبين في الاعتبار عند دراسته. وبما أنه قد أنتجه كُتَّابٌ بشريّون في أحوالٍ تاريخيَّة مُعيَّنة، فمن الملائم والضررويّ استخدامُ جميع التقنيّات المعتادة للدراسة التاريخيَّة والأدبيَّة لوضع الأسفار المُتنوِّعة في بيئاتها التاريخيَّة، واكتشافُ ظروف تدوينها، وفهمُ محتوياتها. رفض المسيحيّون هذه الدراسة في بعض الأحيان على أساس أنها أدَّت إلى التعامل مع الكتاب المُقدَّس كما لو كان مُجرَّدَ كتابٍ بشريٍّ، وأدَّت إلى إنكار حقّ الكتاب المُقدَّس. ومع ذلك، لا يوجد أيّ خطأٍ في أساليب الدراسة، بشرط ألَّا يُبْطَلَ استخدامُها بالافتراضات الزائفة التي تُشكِّك في نشاط الله في إظهار نفسِه في الأحداثِ المُسجَّلة في الكتاب المُقدَّس وفي بيانات الكتاب المُقدَّس نفسه. إذا كُنَّا نؤمن بأنّ الكتاب المُقدَّس هو كلمةُ الله فعلينا ألَّا نخافَ من أنّ الدراسة النقديَّة سوف تُدحِّضه، على الرغم من أنّ استنتاجاتِ بعض العلماء الكتابيّين قد تبدو متناقضةً مع حقّه.

     

    يُلفِت هذا انتباهَنا إلى الجانب الثاني من الكتاب المُقدَّس الذي ينبغي عدمُ نسيانِهِ في الدراسة. ينبغي قراءةُ الكتاب المُقدَّس ودراستُهُ ككلمة الله. فاللهُ الذي أوحى للأنبياء والرُسُل والقدّيسين لكتابة الكتاب المُقدَّس لا يزال يتكلَّم من خلاله، لكيْ نتواصلَ معه تواصلاً حيَّاً وننالَ الحياة الأبديَّة. عندما نقرأ الكتاب المُقدَّس ينبغي أن نُصغيَ لسماعِ كلمته، ولذا ينبغي علينا أنْ نُصلِّيَ طالبين منَ الروح الذي أوحى للكُتَّابِ حتّى ينيرَ القُرَّاء ليُدرِكوا ما يقوله الله لهم ويقبلوه.

     

    النقطة الثانية هي أنّ الكتاب المُقدَّس هو سلطتُنا النهائيَّةُ والأسمى في العقيدة والممارسة المسيحيّتين. فهو يحتوي على سِجّلِ إعلانِ يسوعَ المسيح، الذي لا يمكنُ إضافةُ أيِّ شيءٍ له، وهو الكتاب الذي قَبِلَتْهُ الكنيسةُ باعتباره كتاباً قانونيَّاً وسُلْطتَها النهائيَّة في جميعِ مسائل الإيمان. الغرض من التفسير واللاهوت الكتابيّين ليس إنتاجَ حقائقَ جديدةٍ غيرِ موجودةٍ في الكتاب المُقدَّس بل تسليطَ الضوء على المعنى الكامل لما هو موجودٌ بالفعل في الكتاب المُقدَّس. إنه جزءٌ أساسيّ من الاعتقاد البروتستانتيّ بأنّ الكنيسة لا يمكنها إضافة أيّ شيءٍ إلى الكتاب المُقدَّس، وبأنّ جميعَ عقائِدِها ينبغي اختبارُها بمقدار أمانتها للكتاب المُقدَّس.

     

    توجد بعض الأسئلةِ والمشكلاتِ التي لا يردُ في الكتاب المُقدَّس شيءٌ مُحدَّد عنها، ومُهمَّةُ المسيحيّين في مثل هذه المواقف هي البحث عن حلولٍ تكون كتابيَّة في طبيعتها ومع ذلك قد تتخطَّى تعليم الكتاب المُقدَّس. يؤمن بعض المسيحيّين (وليس كُلُّهم) على سبيل المثال بأنه مع وجود المشكلات المُعاصِرة الهائلة كإدمان الكحول والحوادث بسبب شرب المُسكِرات يحقُّ لهم تخطّي الوصايا المُحدَّدة في الكتاب المُقدَّس وإجراء تطبيقهم الخاصّ لمبدأ عدم التسبُّب في عثراتٍ (رومية 13:14، 21) بالامتناع عن الكحول. تنشأ مشاكل أخرى مع ممارساتٍ مثل الإجهاض ومنع الحمل والقتل الرحيم؛ فهنا أثارتِ التقنيّاتُ والمعرفة الحديثة مشاكلَ كانت غيرَ معروفةٍ في العصور الكتابيَّة، ويتحمَّلُ المسيحيّون مسؤوليَّةَ اكتشافِ مشيئة الله في مثل هذه المسائل على أساس التعليم الكتابيّ. قد لا تكون هذه المهام سهلةً، ولا يتوصَّل المسيحيّون دائماً إلى الاستنتاجات نفسها بخصوص مشاكل مُعيَّنة. فالشيء المُهمّ هو البحث عن حلولٍ تُظهِر الطاعةَ لمشيئة الله المُعلَنة. على الرغم من افتقارِ الكتاب المُقدَّس للتعليم المباشر حول مثل هذه المشاكل، إلّا أنه يحتوي على إعلانٍ كافٍ بمشيئة الله وشخصيَّته لتمكين المسيحيّين من معرفة كيفيَّةِ الإيمان والتصرُّف في العصر الحديث.

    أسئلةٌ للدراسة والمناقشة

  13. "المعرفة واليقين في الدين لا يأتيان من الحُجَّة الفكريَّة بل من القناعة الداخليَّة". هل هذا صحيحٌ أم خطأ؟ ما مخاطر كليهما؟
  14. كيف تُوازِنُ بين الاختبار والعقل وإعلان الله عن نفسه؟ هذا سؤالٌ حاسم، لأنه ما لم نتَّفقْ على كيفيَّة معرفتنا لله سوف نعرفه جميعاً معرفةً مختلفة وفقاً لعقلنا واختباراتنا. ولذلك يُرجى تخصيصُ بعض الوقت والتحدُّثُ عن كيفيَّة عمل هذه العناصر الثلاثة معاً (أو عدم عملها معاً).
  15. إذا كنت تحاول إقناعَ شخصٍ غير مسيحيٍّ بوجود الله، فمن أين ستبدأ؟
  16. هل يُزعِجك أنك لا تستطيعُ إثبات وجود الله؟
  17. هل يمكنك تتبُّعُ أحدِ أنماطِ تعاملِ الله مع إسرائيل من المزمور 78؟ هل يوجد أيُّ دليلٍ على أنّ الله لا يزال يعمل وفقَ المبادئ نفسها تجاه شعوب العالم؟
  18. لماذا لا يكفينا الإعلان عن الله في المسيح (دون تفسيرٍ)؟
  19. ما الفرق بين أن تتباحثَ الكنيسةُ في الأسفار القانونيَّة وأن تعترف بها؟
  20. كيف تشعر تجاه حُجَّةِ مارشال بأننا لا نستطيع إثباتَ أنّ الكتاب المُقدَّس من الله، ولكن الإيمان بأنّ كونه من الله هو التفسيرُ الأكثرُ إرضاءً من بين جميع الأدلَّة؟
  21. ناقشْ أهميَّةَ الطبيعةِ البشريَّة/الإلهيَّة للكتاب المُقدَّس باعتبارها مفارقةً وليست تناقضاً.
  22. ما الاعتراضاتُ التي قُدِّمَتْ ضدّ عصمةِ الكتاب المُقدَّس؟ ناقشْ ما يعنيه هذا المصطلح وما إذا كان يمكن الدفاعُ عن استخدامه.
  23. ما المبادئ التي يجب أن نتبعَها في تفسير الكتاب المُقدَّس كمصدرٍ للعقيدة المسيحيَّة؟
  24. من الشائع في الكنيسة تصنُّعُ التأكيد على أنّ "الكتاب المُقدَّس هو سلطتُنا النهائيَّة والأسمى في العقيدة والممارسة المسيحيّتين". ما جميع الطُرق التي يتعارضُ بها سلوكُ الكنيسة مع هذا التأكيد؟